|

شخصيات إسلاميةشخصيات رجالية إسلامية › عبيد الله بن عبد الله بن عتبة

أحد فقهاء المدينة السبعة، الذين كان يدور عليهم أمر الفتوى كان عالما فاضلا، فقيها تقيا، وكان شاعراً رقيقاً غزلا، ذا حس مرهف، وعاطفة جياشة، وخلق سمح، وكان إلي جانب هذا كله ثقة، كثير الحديث، وحسبه أنه أحد الفقهاء الذين يرجع إليهم أهل المدينة في معرفة أمور دينهم. وقد قيل عنه: لم يكن بعد الصحابة فقيه أشعر منه ولا شاعر أفقه منه، ذلك هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.

أسرته
كان أبوه عبد الله رجلا صالحا. تولى بعض الأعمال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. فحمد سيرته. ولعبيد الله أخوان، هما عون، وعبد الرحمن، وقد اشتهر عون بالفقه والأدب والنسك. وكان وثيق الصلة بعمر بن عبد العزيز وله دالة عليه، وكان يدخل عليه في أي وقت يشاء. بلا إذن مسبق، وهو الذي توجه إلي جرير بقوله لما طال بالشعراء الانتظار أمام باب عمر:

يا أيها القارئ المرخي عمامته أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه هذا زمانك إني قيد مضى زمني أني لدي الباب كالمصفود في قرن.

وكان عون هذا يرى الإرجاء ثم رجع عنه، وله شعر يقول فيه:

فــأول مـا أفــارق غـيـر شــك أفـارق مـا يـقـول المـرجـئـونـا

وقــالوا مــؤمــن مـن آل جــور وليــس المــؤمـنـون بـجـائرينا

وقــالوا مــؤمــن دمــه حــلال وقـد حــرمـت دمــاء المـؤمنينا

وكانت له مشاركة في أحداث عصره، فقد اشترك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجاج، وهرب بعد هزيمة ابن الأشعث، فلجأ إلي محمد بن مروان بن الحكم بنصيبين فأمنه، ووكل إليه تأديب ولديه مروان وعبد الرحمن، وقد سأله يوما: كيف رأيت ابني أخيك؟ فقال: أما عبد الرحمن فطفل، وأما مروان، فإني إن أتيته حجب، وإن قعدت عنه عتب، وإن عاتبته صخب، وإن صاحبته غضب، ثم تركه ولزم عمر بن عبد العزيز. وأما عبد الرحمن فلم تكن له نباهة أخويه ولا فضلهما فخمل ذكره. وأما جده فعتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شيوخه
كان عبيد الله من فضلاء التابعين، وروي الحديث عن أبيه، وأرسل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبي هريرة وابن عباس وعائشة، وابن عمر، وعثمان وسهل ابني حنيف، والنعمان بن بشير وأبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري، وأبي واقد الليثي، وفاطمة بنت قيس، وزيد بن خالد، وعبد الرحمن بن عبد القارى، وأم القيس بنت محصن.

تلاميذه
روي عنه أخوه عون بن عبد الله، ومحمد بن شهاب الزهري، وسعد بن إبراهيم، وأبو الزناد، وصالح بن كيسان وعراك بن مالك وموسى بن أبي عائشة، وأبو بكر بن الجهم العدوي، وضمرة بن سعيد، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وعبد الله بن عبيد الله الربذي، وعبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف، وحصيف الجذري

علمه وقوة حافظته

كان عبيد الله ذا حافظة واعية حتى قال عن نفسه فيما يرويه ابن حجر: ما سمعت حديثا قط، ما شاء الله أن أعيه إلا وعيته. وكانت هذه المقدرة إلي جانب دينه وتقواه مؤهلات له أن يكون أحد فقهاء المدينة السبعة، وأن ينال احترام العلماء وتقديرهم له، وثناءهم عليه، سواء كانوا معاصرين له أو متأخرين عنه، وحتى أدهشت غزارة علمه رجلا مثل الزهري فقال عنه: كنت إذا لقيت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فكأنما أفجر به بحرا. ويقول في مجال آخر: ما جالست أحدا من العلماء إلا أرى أني قد أتيت على ما عنده، وقد كنت اختلفت إلي عروة حتى ما كنت أسمع منه إلا معادا ما خلا عبيد الله بن عتبة، فإني لم آته إلا وجدت عنه علما طريفا. وروى عنه أيضاً قوله: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فلما لقيت عبيد الله بن عبد الله كأني كنت في شعب من الشعاب فوقعت في الوادي، وفي رواية أخرى: فسرت كأني لم أسمع من العلم شيئا.

وحديث الزهري عنه حديث رجل لاقاه ودارسه وأخذ عنه وعن غيره، واستطاع أن يدرك عن قرب الفرق بينه وبين غيره من العلماء وهذه الغزارة في العلم مع رحابة الأفق، وطلاوة الحديث، وحسن السمت. وعلو النفس ـ كل هذه القدرات جعلت رجلا مثل عمر بن عبد العزيز يتمنى الجلوس إليه، والاستماع إلي حديثه، ويقول: ليت لي مجلسا من عبيد الله بن عتبة بألف دينار. وقد أورد ابن خلكان هذا الخبر بتفصيل أتم حيث يقول: قال عمر بن عبد العزيز: لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إلي من الدنيا وما فيها، وقال لأصحابه: والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال. فقالوا له: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك؟

فقال: أين يذهب بكم، والله، إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف. إن في المجادلة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب. وكان دائما يقول: لو كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حيا ما صدرت إلا عن رأيه، وهذه ثقة مجرب في رجاحة عقل عبيد الله، واستقامة دينه، وسداد رأيه. وحينما يقول عمر ذلك بعدما جلس بين يديه سنوات يتلقى على يديه العلم والحديث والأدب إنما يقوله عن تجربة ودراية لا يبتغي بما يقول إلا مرضاة الله وهو من يعرف نسكا وزهدا وعدلا حتى لقب بخامس الخلفاء الراشدين.

عبيد الله وعمر بن عبد العزيز

كانت صلة عبيد الله بعمر بن عبد العزيز وثيقة إذ كان معلمه، وله عليه من الدالة والحقوق ما للأستاذ على تلميذه، ولعل هذا هو سبب الإجلال والتقدير اللذين يبدوان في حديث عمر بن عبيد الله، حتى إنه لما ولى الخلافة قال: لو كان عبيد الله حيا ما صدرت إلا عن رأيه. ولعل المزاج المشترك بين الرجلين كان يجمع بينهما، فقد كان عمر في شبابه مترفا مولعا بالغناء مع علم وعفاف وتقى ودين، وكانت روح الشاعر التي تلون حديث عبيد الله فيما أظن هي التي قربته من قلب عمر، ولعل هذه الصلة توثقت لما كان عمر واليا على المدينة وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الصلة لم تمنع عبيد الله أن يجابه عمر بما يراه أنه قد أخطأ فيه، وأن يحاسبه عليه حسابا أقل ما يوصف به أنه ليس فيه مجاملة، ولا حتى لطف في توجيهه إلي الصواب، وقد كان ما يمتاز به عمر من متانة الخلق والدين واستقامة المسلك ما جعله يحفظ لأستاذه منزلة الأستاذية من غير أن تأخذه عزة الحكم، ولا سطوة السلطان، ويبدو أن عمر في صدر شبابه بحكم انتسابه لبني أمية، وما كان يجري في مجالسهم قد جرى على لسانه ما يفهم منه أنه عيب لبعض الصحابة، فبلغ ذلك عبيد الله، وكان من عادة عمر أن يتردد عليه، ويأتي مجلسه من حين لآخر، ومما لاشك فيه أن عبيد الله كان يتلقاه بالبشر والترحاب والإقبال عليه بما يليق برجل في مثل مكانته ومركزه وسلطانه وأخلاقه ومعرفته، إلا أن عبيد الله بعدما بلغه ما نسب إلي عمر من الوقوع في بعض الأصحاب لم يلتفت إليه حين جاءه، ولم يستقبله بالترحاب والبشاشة التي عهدها منه، وكان في عمر عقل وحكمة وذكاء، فأدرك أن هناك سببا جعل عبيد الله يغير من عادته معه فأقبل عليه قائلا في أدب جم وتواضع تحسده عليه ملوك الدنيا وسادتها: يا أبا محمد، إن لك لشأنا، فإن رأيت لي عذرا فاقبل عذري.

فقال عبيد الله: أتتهم الله في علمه؟

أجاب عمر: أعوذ بالله.

تابع عبيد الله: أتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه؟

ويجيب عمر: أعوذ بالله.

فيعقب عبيد الله قائلاً: يقول الله عز وجل

{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } (الفتح ، الآية18 )

وأنت تقع في فلان، وهو ممن بايع، فهل بلغك أن الله سخط عليه بعد أن رضى عنه؟

ويجيب عمر مذعنا للحق ممتثلا له: والله لا أعود أبدا.

والذي يقف على هذا الحوار، لا يملك إلا أن يثني على عبيد الله بشجاعته في الحق، وبذله النصيحة لله، وممارسة دوره في الأستاذية والتوجيه حتى ولو كان ذلك مع الوالي اليوم والخليفة غدا وهذا أمر محمود ولاشك، إلا أن الموقف الذي يملأ النفس والقلب بالإجلال والإعظام هو موقف عمر، الذي لم يأنف من قبول النصيحة، ولم يستنكف من الاعتراف بالخطأ، ولم يتردد في الاعتذار عما بدر منه، وما أجمل امتثاله للحق حينما بدت له ملامحه من آيات الله سبحانه، وصدق حديث من يحاسبه، وأكثر من ذلك وأبلغ من السمو عياذه بالله، مما ظن أنه قد يرمي به بالنسبة لكلام الله سبحانه وحديث نبيه صلوات الله وسلامه عليه. ولا شك أن الطبيعة السمحة للرجلين جعلت الموعظة تبلغ غايتها، وتفعل فعلها، وتؤدي رسالتها، وهكذا يكون الجهر بالحق والانصياع له عظمة للقائل والمستجيب على السواء.

تلك المقدرة التي أوتيها عبيد الله من الجهر بما يعتقده الحق حتى ولو كان غير ما يرى الوالي، حتى وإن كان ذلك الوالي عمر بن عبد العزيز القريب إلي نفسه، المحبب إلي قلبه، تتجلى في الموقف التالي بين عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، فقد كان عبيد الله وعروة يجريان في قرن فقها وعلما وفضلا، وهما من فقهاء المدينة السبعة، دخلا معا على عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فجرى ذكر عائشة وعبد الله بن الزبير، فقال عروة: سمعت عائشة تقول: ما أحببت أحدا حبي عبد الله بن الزبير لا أني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبوي. فلما سمع عمر ذلك قال: إنكم لتنتحلون عائشة لابن الزبير انتحال من لا يرى لكل مسلم معه فيها نصيبا.

فقال عروة: بركة عائشة كانت أوسع من أن لا يرى لكل مسلم فيها حق. ولقد كان عبد الله منها بحيث وضعته الرحم والمودة التي لا يشرك كل واحد منهما فيه عند صاحبه أحد.

فقال عمر: كذبت.

فرد عروة: هذا عبيد الله بن عتبة بن مسعود يعلم أني غير كاذب، وأن من أكذب الكاذبين من كذب الصادقين. فسكت عبيد الله، ولم يدخل بينهما في شيء، فأفف بهما عمر، وقال: أخرجا عني، ثم لم يلبث أن بعث إلي عبيد الله بن عتبة رسولا يدعوه لبعض ما كان يدعوه إليه، فكتب إليه عبيد الله يقول:

لعمر ابن ليلى وابن عائشة التي لو أنهم عماً وجداً ووالدا عذرت أبا حفص وإن كان واحدا ولكنهم فاتوا وجئت مصليا عبيد الله وعروة يجريان في قرن فقها تأسوا فسنوا سنة المتعطل من القوم يهدي هديهم ليس يأتلى تقرب إثر السابق المتهمل وعمت فإن تسبق فضنء مبرز فما لك بالسلطان أن تحمل القذى وما الحق أن تهوى فتسعف بالذي أبي الله والأحساب أن ترأم الخنى جواد، وإن تسبق فنفسك فاعدل جفون عيون بالقذى لم تكحل أويت إذا ما كان ليس بأعدل نفوس كرام بالخنى لم توكل .

وتعود عبيد الله أن يمر بعمر من وقت لآخر، ولا يحول بينه وبين ذلك حارس ولا حاجب، ولكنه ذات يوم ذهب كعادته، إلا أن الحاجب لم يأذن له، ورد قائلا: إن عنده عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وهو مختل به، فما كاد يسمع ما قاله الحاجب، حتى انصرف مغضبا ظانا أن هذه تعليمات عمر، ولم يكد يستقر به المكان حتى بعث إلي عمر بهذه الأبيات الغاضبة:

وإني امرؤ من يصفني الود يلفني عزيز إخائي لا ينال مودتي ولولا اتقائي الله قلت قصيدة بها تنقض الأحلاس في كل منزل كفاني يسير إذ أراك بحاجتي تلاوذ بالأبواب مني مخافة الملامة ابن لي فكن مثلي أو ابتغ صاحبا وما يلبث الفتيان أن يتفرقوا وإن نزحت دار به دائم الوصل من الناس إلا مسلم كامل العقل تسير بها الركبان أبردها يغلي وينفي الكرى عنه بها صاحب الرحل كليل اللسان ما تمرو ما تحلى والإخلاف شر من البخل كمثلك إني تابع صاحبا مثلي إذا لم يؤلف روح شكل إلي شكل

وقد اختلف ترتيب هذه الأبيات في بعض كتب الأخبار وهي تكشف عن مدى اعتزاز عبيد الله بنفسه، وحرصه على كرامته، ووقوفه من عمر بن عبد العزيز موقف الند، فليس معنى الولاية أن يحجب الأكابر عن بابه، أو أن ينتظر من عبيد الله أن يعود إليه بعد أن يرده حاجبه عن بابه، ويعلن في صراحة أنه لا يحول بينه وبين التشهير به في شعره إلا تقوى الله، ويعلن لعمر في وضوح أنه لا يقبل صحبته إلا إذا كان عمر يراه مساويا له، ولا يرى لنفسه عليه تقدما، فإن كان عمر غير راغب في ذلك فليس هناك داع إلي هذه الصحبة وليبحث له عن صاحب سواه، لأن الأصحاب إذا لم يجمع بينهم تماثل في الأمزحة فإن تفرقهم وشيك، وفي هذا إلماح إلي معنى الحديث النبوي "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".

وما كاد عمر يعلم بأمر هذه الأبيات، وغضبة عبيد الله حتى بعث إليه باثنين من أصحابه المقربين إليه هما أبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وعراك بن مالك يبلغانه اعتذاره ويخبرانه أن عمر يقسم بالله ما أعلم بإتيانك، ولا برد الحاجب إياك، فعذره عبيد الله وقبل منه. ويبدو أن أحداث الرضا والخصام قد تكررت بين عبيد الله وبين عمر، فقد روى عن ابن شهاب الزهري قال: جئت عبيد الله بن عبد الله يوما في منزله، فوجدته ينفخ، وهو مغتاظ، فقلت له: مالك؟

فقال: جئت أمريكم آنفا، فسلمت عليه وعلى عبد الله بن عمرو ابن عثمان فلم يردا علي، فقلت:

فما تراب الأرض منها خلقتما ولا تأنفا أن تسألا وتسلما فلو شئت أن ألقى عدوا وطاعنا فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما وكيف يريدان ابن تسعين حجة ومنها المعاد والمصير إلي الحشر فما حشى الإنسان شرا من الكبر لألفيته أو قا عندي في السر ضحكت له حتى يلج ويستشري على ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر

فقلت له: رحمك الله، أتقول الشعر في فضلك ونسكك؟!

قال: إن المصدور إذا نفث برأ.

ويبدو أن هذه المعاتبات لم تأخذ طريقها بين عبيد الله وبين عمر إلا بعدما تقدمت السن بعبيد الله، وكف بصره، وربما وجد الشاه في ذلك سبيلا ليوغروا صدر عبيد الله على عمر، منتهزين عدم إبصاره، أو ربما يكون عمر أثناء مروره بعبيد الله في شغل شاغل لم يدع له فرصة الانتباه للزائر أو الانصراف إليه كما تعود عبيد الله منه قبل ذلك، وكأن فقده بصره فيما أظن سببا نفسيا جعله يستشعر من تلميذه تقصيرا في حقه، أو قعودا عن القيام بالواجب نحوه، إلي جانب ما كان يصوره له مصاحبوه من انصراف عمر عنه وعدم اهتمامه به، وربما أضافوا إلي ما سبق شيئا على لسان عمر فيه لون من العتب أو اللوم لعبيد الله، ولعلنا نستطيع أن نفهم على ضوء هذا الاستنتاج ما رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد قائلا: وكان قد بلغ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود شيء يكرهه عن عمر ابن عبد العزيز فكتب إليه:

أبا حفص أتاني عنك قول أبا حفص فلا أدري أرغمي فإن تك عاتبا نعتب وإلا وقد فارقت أعظم منك رزءا وقد عزوا علي وأسلموني فضقت به وضاق به جوابي تريد بما تحاول عتابي؟ فما عودي إذا بيراع غاب وورايت الأحبة في التراب معا فلبست بعدهم ثيابي

ويبدو أن هذه الحساسية المفرطة قد أفسدت على عبيد اله صلته بإخوانه، ولاشك أن العامل النفسي كان بعيد الأثر في هذه الحساسية، ولاسيما بعد فقده بصره، فقد انعكس أثر ذلك أيضا على موقفه من صديقته عراك بن مالك، وأبي بكر بن حزم، فقد مضى عليهم زمن، وهم رفقة وأصدقاء يتجالسون ويتجاذبون أطراف الحديث، ويخوضون في أبواب من الفقه وضروب من العلم، وتصرف الزمن بهم حتى أصيبت عينا عبيد الله فكف بصره في شيخوخته، وتولى ابن حزم إمارة المدينة، وتولى عراك بن مالك قضاءها، وكانا أثناء تقلدهما لعملهما يمر الواحد منهما بعبيد الله، فلا يقف إليه ولا يسلم عليه كما كانت عادتهما من قبل، وكان لا يعرف ذلك لذهاب بصره، فلما اخبر بصنيعهما ممن حوله غضب وثار، وأنشد:

ألا أبلغا عني عراك بن مالك فقد جعلت تبدو شواكل منكما وطوعتما بي داعكا ذا معاكة ولولا اتقائي ثم بقياي فيكما فما تراب الأرض منها خلقتما ولا تأنفا أن تسألا وتسلما فلو شئت أن ألقي عدوا وطاعنا ولا تدعا أن تثنيا بأبي بكر كأنكما بي موقران من الصخر لعمري لقد أزرى وما مثله يزري للمتكما لوما أحر من الجمر ومنها المعاد والمصير إلي الحشر فما حشى الإنسان شرا من الكبر لألفته أو قال عندي في السر

فــإن أنـا لــم آمـر ولـم أنه عنكما ضـحـكت لـه حـتـى يلج ويستشرى

ويلاحظ أن بعض الأبيات هنا مكرر مع ما سبق، ولعله كرر هذه الأبيات في المناسبتين مادام الموضوع واحدا والشاعر واحدا أيضا، ويلاحظ أن الأبيات الأخيرة قد تكررت مع اختلاف طفيف في التركيب وإن كانت تبدو هنا اكثر اتساقا منها هناك.

أيام شبابه

كان عبيد الله في شبابه يستهويه الجمال، ويأسر فؤاده، ولا يرى بأسا من أن ينفث عن نفسه بمقطوعات يعبر فيها عن وجده وهواه، وما يعانيه من لوعات الهوى وحرقاته، على عادة الشعراء الغزليين، ولكن في عفة، ورقة حاشية، وترفع عن هجر القول. ويروي أن امرأة جميلة من هذيل قدمت المدينة من ناحية مكة، فتقدم كثيرون لخطبتها، وكاد أن يذهب بعقول أكثرهم جمالها، وقد شارك عبيد الله في الحديث عن حسنها، ومعالجة هواها، واستشهد على صدق معاناته بفقهاء المدينة السبعة الذين يعدونه واحدا منهم. وفي هذا يقول:

أحبك حباً لو علمت ببعضه وحبك يا أم الصبي مدلهي ويعلم وجدي القاسم بن محمد ويعلم ما أخفى سليمان علمه متى تسألي عما أقول فتخبري لجدت ولم يصعب عليك شديد شهيدي أبو بكر، وأني شهيد وعروة ما ألقى بكم وسعيد وخارجة يبدي لنا ويعيد فللحب عندي طارف وتليد

ولما بلغت هذه الأبيات سعيد بن المسيب قال: والله لقد أمن أن تسألنا، وعلم أنها لو استشهدت بنا لم نشهد له بالباطل ضدها.

زواجه بعثمة

كان عبيد الله قد تزوج امرأة اسمها عثمة، وكان لها في قلبه مكانة لا تدانيها مكانة، فوقع بينهما بعض ما يوجب العتاب، ثم تطور الأمر حتى أنتهى بهما إلي الطلاق، ولكن حبها لم يطلق فؤاده، ولم ينله رقاده، فأسهر ليله، وأرق نهاره، ولم يستطع أن يكتم ما به من هواها، فانطلق شعره ينفث حرقات فؤاده، وما يلقاه من جراء ذلك الفراق الذي آلمه وأدمى قلبه. ومن خبر ذلك ما رواه الزبير بن بكار قال: قال لي عمي: لقيني علي بن صالح، فأنشدني بيتا، وسألني: من قائله؟ وهل فيه زيادة؟ فقلت: لا أدري، وقد قدم ابن أخي ـ يعني الزبير ـ وقل ما فاتني شيء إلا وجدته عنده.

قال الزبير: وانشدني عمي البيت، وهو:

غراب وظبي أعضب القرن ناديا

بصرم وصردان العشي تصيح

فقلت له: قائله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وبعده:

لعمري لئن شطت بعثمة دارها

لقد كدت من وشك الفراق أليح

أروح بـهم ثـم أغـدو بمثله

ويحسب أني في الثياب صحيح

فكتبهما عمي، وانصرف بهما إليه

وقد كانت عثمة قد ملكت فؤاده، واستولى حبها عليه، وعبر عن ذلك بقوله:

تغلغل حب عثمة في فؤادي تغلغل حيث لم يبلغ شراب صدعت القلب ثم ذررت فيه أكاد إذا ذكرت العهد منها غنى النفس أن ازداد حبا وأنفذ جارحاك سواد قلبي فباديه مع الخافي ولا حزن ولم يبلغ سرور هواك فليم والتأم الفطور أطير لو أن إنسانا يطير ولكني إلي صلة فقير فأنت على ما عشنا أمير

وقد تغنى بهذا الشعر المغنون في عهده. وقد أورد صاحب الأغاني بعض المقطعات التي أنشدها عبيد الله في زوجته عثمة بعد فراقهما، وتغنى بها المغنون ومنها:

كتمت هواها حتى أضر بك الكتم ألا من لنفس لا تموت فينقضي أأترك إتيان الحبيب تأثما فذق هجرها قد كنت تزعم أنه ولامك أقوام ولومهم ظلم عناها ولا تحيا حياة لها طعم ألا إن هجران الحبيب هو الإثم رشاد، ألا يا ربما كذب الزعم

ومما غنى له أيضاً:

عفت أطلال عثمة بالغميم وقد كنا نحل بها وفيها فأضحت وهي موحشة الرسوم هضيم الكشح جاثلة البريم
وكذلك ما غنى به من شعره قوله أيضا في عثمة بعد فراقهما:

إن يك ذا الدهر قد أضربنا أبكي على ذلك الزمان ولا إذ نحن في ظل نعمة سلفت من غير ذحل فربما نفعا أحسب شيئا قد فات مرتجعا كانت لها كل نعمة تبعا

وسار هذا الشعر وانتشر عن عبيد الله وبخاصة بعدما تغنى به المغنون، وتناقل الناس ما يعانيه من لوعة الصبابة، وعهدهم بمثل هذا أن يؤثر عن الغزليين من فتيان الشعراء، فما بالك بأحد فقهاء المدينة السبعة، فلما عوتب في إثار هذا اللون من القول عنه، وقيل له: أتقول مثل هذا؟ أجاب: في اللدود راحة المفئود. لعبيد الله شعر في الحكمة والفخر وبأرومته ذكر صاحب الأغاني جانبا منه، ومما سجله له من الشعر الذي يجري مجرى المثل وقال عنه صاحب الأغاني إنه من الشعر الجيد الفحل قوله:

إذا كان لي سر فحدثته العدا وسرك ما استودعته وكتمته وضاق به صدري فللناس أعذر وليس بسر حين يفشو ويظهر
وقوله لابن شهاب الزهري:

إذا قلت أما بعد لم يثن منطقي إذا شئت أن تلقي خليلا مصافيا فحاذر إذا ما قلت كيف أقول لقيت وإخوان الثقات قليل
ومما قال عنه صاحب الأغاني إنه من جيد شعره وسهله قوله:

أعاذل عاجل ما أشتهى سأنفق مالي على لذتي أبادر إهلاك مستهلك أحب من الآجل الرائث وأوثر نفسي على الوارث لما لي أو عبث العابث

ومما قاله مفتخرا بأخلاقه، وكتمانه أسرار أصحابه واعتزازه بآبائه:

شددت حيازيمي على قلب حازم أداجي رجالا لست مطلع بعضهم بنى لي عبد الله في ذروة العلا كتوم لما ضمت عليه أضالعه على سر بعض إن صدري واسعه وعتبه مجدا لا تنال مصانعه

وكان يعجبه أن يسمع ثناء على شعره واستحسانا لقوله وهو وإن كان أحد الفقهاء السبعة إلا أن الملكة الشعرية كانت أظهر، وكان يعجبه أن يتغنى الناس بشعره ويرددوه وقد التقى به أحد الشعراء المعاصرين له ويسمى جامع بن مرخية فأنشده ثلاثة أبيات قال فيها:

لعمر أبي المحصين أيام نلتقي يعدون يوما واحدا إن أتيتها وإن أولع الواشون عمدا بوصلنا لما لا نلاقيها من الدهر أكثر وينسون ما كانت على الدهر تهجر فنحن بتجديد المودة أبصر

فأعجب ابن مرخية ما قال عبيد الله وهو من شعراء الحجاز وهو الذي يقول:

سألت سعيد بن المسيب مفتي الـ مدينة هل في حب ظمياء من وزر

فقال سعيـد بـن المســيب إنما تلام على ما تسـتطيع مـن الأمر

فلما بلغ قوله سعيدا قال: كذب، والله ما سألني ولا افتيته.

بصره بالفنون

كان عبيد الله رجلا ذا ذوق شاعري، وكان يطرب للحن الجميل، والصوت الآسر، وكان له إلمام بالموسيقى لأنها صنو الشعر وما الشعر إلا موسييقى سرت في الألفاظ فتغلغت في المشاعر والأحاسيس وكان عبيد الله مثل غيره من الفقهاء المشهورين، والعلماء الذين لهم قدم راسخة في حقل الشرع، وعرفوا باستقامة الدين، ونقاء الفطرة، وسماحة الخلق، وسعة الأفق في معالجة الأمور لا يضيرهم أن يلموا بألوان من الفنون كالشعر والموسيقى، وما إلي ذلك. وكان أهل المدينة معروفين برقة الطبع، وحلاوة المزاح وحسن الأدب عند الاستماع، والاهتزاز للقول الجميل، والصوت الشجي حتى روي عن عبيد الله بن جعفر أنه قال: إن لي عند السماع هزة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت لأبليت وأخباره في هذا المجال لا حصر لها، وهي مبثوثة في كتب الأخبار والأدب.

وقد روي صاحب العقد الفريد عن الأصمعي أنه مر بدار الزبير بالبصرة فإذا شيخ قديم من أهل المدينة من ولد الزبير يكني أبا ريحانه جالس بالباب عليه شملة تستره، يقول الأصمعي فسلمت عليه وجلست إليه. فبينما أنا كذلك إذا طلعت علينا سويداء تحمل قربة، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها.

فقال لها: بالله غني صوتا.

فقالت: إن موالي أعجلوني.

قال: لابد من ذلك.

قالت: أما والقربة على كتفي فلا.

قال: فأنا أحملها. فأخذ القربة منها، فاندفعت تغني:

فؤادي أسير لا يفك ومهجتي ولي مقلة قرحى لطول اشتياقها فديتك أعدائي كثير وشقتي تفيض وأحزاني عليك تطول

إليك وأجفاني عليك همول بغيد وأشياعي لديك قليل

فطرب وصرخ صرخة، وضرب بالقربة إلي الأرض فشقها، فقامت الجارية تبكي، وقالت: ما هذا جزائي منك، اسعفتك، بحاجتك فعرضتي لما أكره من موالي.

قال: لا تغتمي، فإن المصيبة علي حصلت، ونزع الشملة، ووضع يدا من خلف ويدا من قدام وباع الشملة، وأبتاع لها قربة جديدة وقعد بتلك الحال. فاجتاز به رجل من ولد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فعرف حاله، فقال: يا أبا ريحانه، أحسبك من الذين قال الله تعالى فيهم:

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } (البقرة ،الآية:16) قال: لا، يا ابن بنت رسول الله، ولكن من الذين قال الله تعالى فيهم:

{ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } (الزمر،الآية:17) .

فضحك، وأمر له بألف درهم.

وتروي كتب الأخبار أن عددا من أعلام العلماء المشهورين لم يكونوا يستنكفون أن يكون لهم معرفة بأصول النغم والضرب على الآلات. وقصة الشعبي، في مجلس بشر بن مروان، وهو يوجه أحد العازفين أن يشد أوتاره، ويحكم الضرب قصة مستفيضة ومن هذا القبيل ما يبدو أن عبيد الله كان على علم بأدوات الموسيقى وآلات الطرب، فقد ذكر اسم "البربط" في مجلس يزيد بن عبد الملك، فتساءل يزيد ليت شعري ما هو؟ وكان عبيد الله حاضرا، فأجاب أنا أخبرك ما هو، ثم أخذ وصفه وصف الخبير به، وبمحتوياته، ودقائق أجزائه، وكان مما قال: هو محدودب الظهر، أرسح البطن له أربعة أوتار، إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حرك أعطافه وهز رأسه.

شيخوخته ووفاته

كان عبيد الله قد أصيب بعينيه في أخريات حياته كما مر بنا، ويبدو أن هذه الفترة التي فقد فيها بصره كانت شديدة الوقع على نفسه، إذا كانت حساسيته المفرطة تجعله يستشعر أن إخوة الأمس، قد ضيعوا حق الأخوة بعدما امتد به العمر، وفقد نور البصر، واختلف في وفاته رحمه الله بين سنوات 99،98،95،94 هـ فرحمه الله رحمة واسعة. وجولتنا مع عبيد الله قد غلب عليها حديث الشعر والعلاقات التي كانت تتجاذبها حالات الرضى والغضب مع حبيه وعارفي فضله. ولكننا لم نجد مواقف فقهية معينة تفرد بها عمن سواه حتى عد من الفقهاء السبعة، ويبدو أن سبب ذلك أن الأحكام كانت تصدر عن مجمع الفقهاء الذي كان يستشيره عمر بن عبد العزيز وأن ما كان يغلب على عبيد الله من الشاعرية قد استأثر بانتباه المؤرخين وأصحاب الأدب فسجلوا له هذا اللون الذي تميز به عن زملائه الفقهاء فرحمه الله وأجزل مثوبته.

عدد المشاهدات: 7983
التعليقات على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
71086

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

سجل في النشرة الاخبارية في نور الله