آخر الأخباراخبار الفن والثقافة › رموز الثقافة التونسية في القرن العشرين

صورة الخبر: الطاهر الحداد من رموز فكر الإصلاح في تونس
الطاهر الحداد من رموز فكر الإصلاح في تونس

خلال السنوات القليلة الماضية، انشغلت تونس بالاحتفال بالذين صنعوا مجد ثقافتها خلال القرن العشرين، وتركوا أعمالا لا تزال تحظى بإعجاب واهتمام الكثيرين من أبنائها، والبعض منهم لا يزال يتمتع بالشهرة في العالم العربي، مثل الشاعر أبي القاسم الشابي. وجميع هؤلاء من شعراء وكتاب قصة، وفنانين مسرحيين وموسيقيين كانوا ثمرة الحركة الإصلاحية والتحديثية التي بدأت في تونس في منتصف القرن التاسع عشر.

وكان المحرك الأساسي لها المصلح خير الدين باشا "1823- 1890" صاحب كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" والذي بلور أفكاره النهضوية والإصلاحية والتحديثية على ضوء احتكاكه بالغرب، وبفرنسا بالخصوص، والتي كان عارفا بلغتها وآدابها وقوانينها. ومن الأعمال الجليلة التي قام بها خير الدين بناء "المدرسة الصادقية" التي أتاحت لأبناء تونس التعرف على الحضارة الأوروبية، وعلى العلوم العصرية، وتعلم اللغة الفرنسية.

ومن هذه المدرسة سوف تتخرج النخب التونسية المؤمنة بالتطور والتقدم، والرافضة للتزمت والإنغلاق بجميع أشكاله وألوانه. ومنها سوف يتخرج زعماء سياسيون كبار سوف يلعبون أدوارا مهمة في النضال ضد الاستعمار وبناء الدولة الحديثة بعد حصول تونس على استقلالها عام 1956. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر الحبيب بورقيبة الذي حكم تونس من عام 1956 حتى عام 1987 والطاهر صفر ود. محمود الماطري والهادي نويرة وآخرين كثيرين.

وكان للمدرسة الصادقية دور كبير في تحديث الثقافة التونسية على جميع المستويات. فحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظل "جامع الزيتونة" المنارة المعرفية الوحيدة في تونس، وفي بلدان المغرب العربي. وكان التعليم فيه يقتصر على تعليم الفقه والعلوم الدينية واللغة العربية وآدابها.

أما العلوم العصرية فلم يكن لها مكان في البرامج التعليمية. وقد حاول المصلح خير الدين باشا إصلاح التعليم الزيتوني معتمدا في ذلك على البعض من شيوخه وعلمائه من أمثال الشيخ محمود قابادو والشيخ سالم بوحاجب والشيخ محمد بيرم.

غير أنه لم ينجح في ذلك إلا جزئيا إذ أن الشيوخ المحافظين والمتزمتين والرافضين لأي نسمة تأتي من الخارج، كانوا لا يزالون يحتفظون بقوتهم وسلطتهم على الطلبة وعلى البرامج. ولم تبدأ هذه الأوضاع في التغير إلا بعد إنشاء "المدرسة الصادقية" التي انجذب إليها عدد كبير من الشبان التونسيين المتأثرين بالأفكار الإصلاحية والتحديثية.

ولم تلبث "المدرسة الصادقية" أن أثرت أيضا في طلبة "جامع الزيتونة"، فأخذوا يثورون وينظمون التظاهرات الكبيرة للمطالبة بـ"تعصير" التعليم و"تحديثه". وهذا ما حدث في ربيع عام 1910.
وابتداء من العشرينات في القرن الماضي، سوف تشهد تونس بروز جيل جديد من الكتاب والشعراء. وجلهم كانوا ثمرة الحركة الإصلاحية والتحديثية التي أشرنا إليها سابقا.

وكان أول هؤلاء الشاعر أبو القاسم الشابي "1909- 1934" الذي احتفلت تونس بمرور مائة عام على ميلاده وذلك عام 1909. وينتمي هذا الشاعر الذي اختطفه الموت مبكرا إلى عائلة عريقة من مدينة "توزر" بالجنوب التونسي. وكان والده قاضيا محترما أمضى الشطر الأكبر من حياته متنقلا بين مختلف المدن التونسية. لذلك سوف يتعرف الشابي مبكرا على العديد من الأماكن التي سوف تنعكس تأثيراتها ومشاهدها الطبيعية على مجمل قصائده التي نجد فيها حضورا قويا للصحراء، ولواحات توزر، ولجبال "عين دراهم" التي أمضى فيها أشهرا طويلة للتداوي من مرض السل الذي أصيب به وهو في سن الثانية عشرة. كما نجد فيها حضورا للبحر ولجنان الليمون والبرتقال في منطقة "الوطن القبلي".

ورغم أنه كان طالبا في "جامع الزيتونة" حيث درس الحقوق، فإن أبا القاسم الشابي تحمس للحركة الإصلاحية والتحديثية، وانتصر لأفكار الطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي دعا في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي إلى تحرير المرأة العربية المسلمة من قيود الماضي وتقاليده البالية.

كما انتصر أبو القاسم الشابي لكل الأفكار الداعية إلى التطور والتقدم في جميع المجالات، بما في ذلك مجال الشعر والأدب والثقافة بصفة عامة. وهذا ما عبر عنه في محاضرته المشهورة التي ألقاها عام 1919 في "الخلدونية" والتي كانت بعنوان "الخيال الشعري عند العرب".

وفي تلك المحاضرة التي لم يتم الانتباه إلى أهميتها إلا بعد مرور عقود على إلقائها، انتقد أبو القاسم الشابي الشعر العربي في مجمل مراحله، قبل الإسلام وبعده، وأشار إلى نقائصه، وفقره خصوصا في مجال التغني بالطبيعة وبجمال المرأة. وفي تلك المحاضرة الجريئة، أوحى الشابي لقرائه بأنه ينفي عن العرب أن يكونوا هم وحدهم "أمة الشعر".

وبمساعدة صديقه محمد الحليوي، أصيل مدينة القيروان، الذي كان يتقن الفرنسية، تعرف أبو القاسم الشابي الذي كان يقول إنه "يحلق بجناح واحد" "أي أنه لم يكن يحذق أي لغة أجنبية، على الحركة الرومانسية، وعلى الشعراء الرومانسيين في كل من فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا. ونحن نلمس بوضوح تأثيراتهم على مجمل القصائد التي تضمنها ديوانه الوحيد "أغاني الحياة" الذي لم يصدر إلا بعد وفاته.

وكان الشابي يتابع باهتمام كبير الحركة الأدبية والثقافية في المشرق العربي، خصوصا في مصر ولبنان. وهذا ما ينعكس في الرسائل الكثيرة التي كان يبعث بها إلى صديقه الأقرب إلى قلبه، ووجدانه، محمد الحليوي. وفي تكل الرسائل هو يعبر عن إعجابه بجبران خليل جبران الذي تأثر كثيرا بكتاباته، وبالعقاد وطه حسين، ومن المؤكد أن اهتمامه بالحركة الأدبية والثقافية في المشرق العربي هو الذي شجعه على نشر قصائده في مجلة "ابولو" المصرية.

وإلى جانب ديوان "أغاني الحياة" ومحاضرة "الخيال الشعري عند العرب" والرسائل التي تبادلها مع صديقه محمد الحليوي، ترك أبو القاسم الشابي "يوميات" عبر من خلالها عن هواجسه، وعواطفه، مبرزا فيها العديد من آرائه وأفكاره بخصوص القضايا الأدبية والفنية والثقافية والسياسية التي وسمت مطلع الثلاثينات من القرن الماضي.

وينتمي مصطفى خريف الذي تحتفي تونس هذا العام، 2010، بمرور مائة عام على ميلاده إلى مدينة نفطة الواقعة بمنطقة "الجريد" قرب "توزر" مسقط رأس الشابي. ومبكرا وفد إلى العاصمة وفيها استقر، ودرس في "جامع الزيتونة"، وتعرف على أبي القاسم الشابي وعلى العديد من الشبان الذين كانوا مثله متحمسين للأفكار الإصلاحية والتحديثية.

وانطلاقا من الثلاثينات، شرع يكتب في المجلات وفي الجرائد التي كانت مساندة للحركة الوطنية المناهضة للاستعمار. وكان ينتقد مظاهر الجهل والتخلف والتزمت المتفشية آنذاك في المجتمع التونسي. أما في قصائده فقد تغنى بحبه للحياة، وملذاتها، مستحضرا الشعراء القدامى الذين تأثر بهم من أمثال أبي نواس وبشار بن برد وشعراء الأندلس. وحتى وفاته عام 1967، ظل مصطفى خريف مخلصا للشعر وحده، متحررا من كل القيود بما في ذلك الزواج.

وكان أخوه البشير خريف "1917- 1983" مغرما بالأدب هو أيضا منذ سنوات الشباب. وبالفرنسية قرأ لكبار الكتاب الفرنسيين والروس والأمريكيين من أمثال بالزاك وفلوبير وموبسان وستاندال ودستويفسكي وتشيكوف وغوغول وجاك لندن وهمنغواي وجون شتاينبيك. وبهؤلاء تأثر كثيرا.

ويبرز ذلك في مجمل ما كتب من قصص وروايات مثل "خليفة الأقرع" و"مشموم الفل" و"حبك درباني" و"الدقلة في عراجينها" التي اعتبرها الراحل الكبير الطيب صالح واحدة من أجمل الروايات العربية التي قرأها. ومن الغزو الأسباني لتونس في القرن السادس عشر، استوحى البشير خريف موضوع روايته التاريخية الوحيدة "برق الليل"، وفيها يروي الحياة اليومية للناس في حاضرة تونس خلال الغزو المذكور من خلال عبد زنجي كان يعمل في قصور الأعيان.

وقد برع البشير خريف في استعمال اللغة اليومية وبها كان يطعّم ويغذي اللغة العربية الفصيحة. حتى عناوين قصصه ورواياته كانت مستوحاة من التراث الشعبي التونسي الذي كان ملما به إلماما كبيرا.

ويعتبر محمود المسعدي "1911- 2005" ظاهرة فريدة من نوعها لا في تونس وحدها، بل في العالم العربي. فقد حفظ القرآن طفلا. ثم انتمى إلى "المدرسة الصادقية"، ثم إلى جامعة "السربون" بباريس مطلع الثلاثينات من القرن الماضي.

وخلال السنوات التي أمضاها في العاصمة الفرنسية، اطلع محمود المسعدي على الأدب الفرنسي الحديث متمثلا في كل من جان بول سارتر وألبير كامو وأندريه جيد. كما قرأ بعمق الفلاسفة الألمان خصوصا شوبنهاور. ومن المؤكد أنه تأثر بالفلسفة الوجودية.

وهذا ما سوف يبرزه في أثره الأول "السد" حيث تتحطم عزيمة البطل غيلان أمام جبروت الطبيعة. والجانب المهم والمشرق الذي تميز به المسعدي في كل أعماله- وهي قليلة على أية حال- هو قدرته الفائقة على إعادة الحياة للغة العربية القديمة في صفائها وروعتها ودقتها وعمقها تماما مثلما كان حالها مع أبي حيان التوحيدي وعبد الله بن المقفع والجاحظ والأصفهاني وغيرهم.

وفي أثره البديع "حدث أبو هريرة قال..."، رسم محمود المسعدي صورة آسرة لحيرة الإنسان العربي المسلم في القرن العشرين، قرن الحروب والكوارث والزلازل الكبيرة.

وكان يحب أن يقول "الأدب مأساة أو لا يكون". وقد انقطع المسعدي عن الكتابة في الأربعينات من القرن الماضي لينشغل بالسياسة. وبعد الاستقلال، تقلد مناصب سياسية رفيعة. فقد كان وزيرا للتربية والتعليم في الستينات، ووزيرا للثقافة في السبعينات، ثم رئيسا للبرلمان في التسعينات.

وفي مطلع الثلاثينات، برزت للوجود جماعة "تحت السور". و"تحت السور" كان مقهى شعبيا في حي "باب سويقة" القديم. وكان يرتاده فنانون وشعراء ورسامون وكتاب عاطلون وهامشيون، يميلون إلى الكسل، والشراب، وتدخين الحشيش، واللهو مع الغانيات. وكانوا مطلعين على الأدب الفرنسي، ويعشقون بودلير وفرلين وفيكتور هوغو، وحتى على الشعراء السورياليين. وكانوا ينشرون قصائدهم ونصوصهم التي ينتقدون فيها التقاليد القديمة، والتزمت الديني، و"الثقافة الصفراء" في أغلب الصحف والمجلات التي كانت مشهورة في تلك الفترة.

وقد أثارت تلك النصوص وتلك القصائد حفيظة رجال الدين في "جامع الزيتونة" وغضبهم أكثر من مرة. لذلك عاش جماعة "تحت السور" منبوذين، ومطاردين، ومهانين. وبسبب إسرافهم في المجون، وملذات الحياة، ماتوا جميعا وهم في ريعان الشباب. وهذا ما حدث لعلي الدوعاجي "1909- 1949" رائد القصة التونسية، ومحمد العريبي الذي انتحر في باريس في الليلة الفاصلة بين عام 1946- 1947.

المصدر: العرب أونلاين- حسونة المصباحي

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على رموز الثقافة التونسية في القرن العشرين

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
26797

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

سجل في النشرة الاخبارية في نور الله
أخبار المسلمين الأكثر قراءة
خلال 30 أيام
30 يوم
7 أيام