آخر الأخباراخبار الفن والثقافة › جورج باطاي والاحتكاك بالمستحيل

صورة الخبر: جورج باطاي والاحتكاك بالمستحيل
جورج باطاي والاحتكاك بالمستحيل

بعد أن اصدر طبعة فاخرة لقصيدة الشاعر الفرنسي الكبير ستيفان مالارميه "1842-1898" الشهيرة: "رمية نرد أبدا لن تبطل الزهر"، نشر الشاعر والناقد المغربي المعروف محمد بنيس عن دار "توبقال" ترجمة لمجمل القصائد التي كتبها جورج باطاي حملت عنوان: "القدسي وقصائد آخرى".

وقد قدّم لهذا الكتاب الشاعر الفرنسي برنارنويل. وفي نص قصير استبق به المقدمة، كتب محمد بنيس يقول: كنت منذ سنوات طويلة أخذت أتعرّف على أعمال جورج باطاي. وكان كل من كتب "التجربة الداخلية والمستحيل" "عنوان جديد لكتاب كراهية الشعر" و"الأدب والشعر" و"القسمة الملعونة" ذا حظوة في نفسي.

لم يتوقف تعرّفي على باطاي عبر السنوات، لكنني لم يسبق لي أن قرأت سوى قصائد متفرقة من شعره. وعندما أصبح هذا الديوان بين يديّ وجدتني منخرطا في نقله إلى العربية ثم تبين لي ان ترجمته شيء غير معتاد بالنسبة لمعرفتنا بالشعر الحديث في القرن العشرين. وربما يطرح على قارئه أسئلة صعبة جدا تخص معنى وحقيقة الشعر".

وفي مكان آخر من النص المذكور، كتب محمد بنيس يقول: "من بين ما تتطلبه قراءة "القدسي" معرفة بثقافة مسيحية، كأرضية كتب ضدها جورج باطاي مجموعة من قصائده. وقد كانت تلك الثقافة في بداية ما استحضرته أثناء القراءة والترجمة في آن. فلم يكن ممكنا أن أحافظ على الاستراتيجية الشعرية لباطاي دون اطلاع على هذه الثقافة والعمل، بتعاون مع أصدقاء وعارفين مسيحيين على التمكن مما تفرضه عليّ الترجمة، على الأقل".

وفي بداية المقدمة، كتب برنارنويل يقول "ظل العمل الشعري لجورج باطاي مهملا، لا لأن الجودة تنقصه، بل لأنه يمثل بكل تأكيد خطرا على الشعر. فهذا العمل لا يعترض في الشعر فقط على الطرائق، انه يمزقها، يلطخها أو يجعلها عرضة للسخرية.

هكذا يكون الشعر مهاجما في طبيعته نفسها، ومن ثم محّرفا، أو بدقة أكثر ملوثا، ونحتمي من هذا التلويث الذهني عندما نعزوه إلى موضوعات هي في العادة فاحشة أو داعرة فيما الأمر يتعلق بشيء آخر تماما – بدمار داخلي يشوّه التركيبات العادية للقصيدة ليلحق الضرر انطلاقتها. ثمة فظاظة في هذا الانقلاب، أي طريقة في تعرية البيت وعرض عريه الصوتي وتقطيع ما يقول تقطيعا بالمقلوب".

وأظن أن محمد بنيس فعل خيرا عندما أجهد نفسه لينجز ترجمة بديعة لمجمل قصائد جورج باطاي الذي ينفرد بمكانة خاصة في الأدب الفرنسي الحديث لا يكاد ينفرد بها غيره. فقد جمع بين الفكر والفن، وبين الشعر والرواية، وظل حتى النهاية محافظا على استقلاليته، بعيدا عن مجمل التيارات الفكرية والفنية والأدبية التي وسمت عصره. وكان يحب أن يقول إنه يرغب دائما، وفي كل ما كان يكتب، سواء كان ذلك شعرا، أم نثرا، أم فكرا، "الاحتكاك بالمستحيل".
ولعله عرّف عالمه قائلا في احدى قصائده حملت عنوان: "نشيدي". "أملأ السماء بحضوري/ صرختي ليست صرخة طائر ضخم يثقب الفجر/ نشيدي ليس نشيد الزيزان التي تملأ ليالي الصيف/ شكواي ليست للمحتضرين في الفراغ الذي يلي قصفا/ إنها تمَزّق/ لا أموت أنا لست لا شيء/ فهل أنا أعرف ما هذه الصرخة/ إنها تفتح السحب/ لا أضحك أبدا لا أبكي/ أصرخ/ أفتح السماء كما نفتح حلق المحتضرين/ هادئ أنا كثور يخور تحت المطر/ لست إنسانا يخور/ أنا أشدّ بلها من الصاعقة التي تقهقه/ أريد أن أحدث ضجيجا كبيرا جدا حتى لا نتفاهم أبدا".

وفي قصيدة أخرى، كتب جورج باطاي يقول "بعيدا ما بعد تغيّب الأصدقاء والقراء المقربين/ أبحث الآن عن الأصدقاء، عن القراء الذين يمكن أن يعثر عليهم ميّت/ ومسبقا، أراهم أوفياء، لا يحصى عددهم، بُكما/ نجمة السماء! لكن أيها الضحك، جنوني سيكشف عنك/ وموتي سوف يلتحق بك".

وقد ولد جورج باطاي في العاشر من سبتمبر 1897 في بيلوم، بوي – دو – دوم " BILLON PUY-DE- DÔME" وكان والده أعمى، ومصابا بمرض السفلس. وفي بداية القرن العشرين، انتقلت العائلة إلى مدينة "راسيس".

وهناك تفاقمت متاعبها بسبب مرض الأب الذي أصيب بالشلل ولم يعد قادرا بالتالي على القيام بواجباته تجاهها. وعلى مدى سنوات طويلة، ظلّ الطفل جورج الذي كان حادّ الحساسية يستمع إلى أبيه وهو يصرخ مثل المجانين، في الليل كما في النهار وربما للهرب من ذلك الوضع الفظيع، اختار الابتعاد عن البيت العائلي لينتسب إلى ثانوية "ابيرناي" "EPERNAY " وفيها تحصل على شهادة الباكلوريا وذلك عام 1914.

وفي نفس هذا العام، اعتنق الكاثوليكية، وبدأ ينجذب إلى عالم الكتابة، راغبا في أن يبلور لنفسه "فلسفة غريبة ولا معقولة" لكن سرعان ما غرق في ظلام الشك والخوف، وبات عرضة لأزمات نفسية حادة كانت تدفع به بين الحين والحين إلى التفكير في الانتحار. وفي غياب عائلته.

قضى والد جورج باطاي بعد صراع طويل مع المرض، وكان ذلك في السادس من نوفمبر 1915 ومفجوعا بموته وحيدا سوف يكتب الابن في ما بعد يقول: "لا أحد، لا على الأرض، ولا في السماوات، انشغل بجزع أبي محتضرا".

وكانت الحرب العالمية الأولى في أوجها لما جنّد جورج باطاي غير أنه لم يرسل إلى الجبهة لاعتلال صحته. وساعيا للتخلص من السوداوية التي كانت تغشى حياته، ومن الهواجس التي كانت تعذب فكره وروحه، فرض على نفسه نظام عمل صارما، وشرع يخصص ساعات طويلة للقراءة والتأمل. كما أنه راح يسجل في دفاتره، ما كان يعتمل في ذهنه من أفكار ومشاعر.

عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، انتقل جورج باطاي للعيش في العاصمة باريس، وهو لا يزال ممزّق النفس بين الايمان والإلحاد. وفي لندن التي سافر إليها في خريف عام 1918، زار "المتحف البريطاني"، والتقى صدفة بالفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برغسون، ومعه تناول طعام العشاء، بعدها قرأ كتابه "الضحك" الذي لم يعجبه كثيرا.

مع ذلك استنتج أن الضحك هو "عمق العالم". وهو "مفتاحه"، ولعل الفترة القصيرة التي أمضاها في بريطانيا التي كانت تنهض آنذاك متعبة من الحرب، ومن العصر الفيكتوري، هي التي عجّلت بانهيار علاقته بالكاثوليكية.

وكانت سنة 1922 زاخرة بالأحداث والتجارب بالنسبة لجورج باطاي. فبعد تخرّجه من مدرسة "شارتر" سافر إلى مدريد وهناك عايش حدثا فظيعا.فقد رأى قرن ثور يخترق عين ورأس مصارع الثيران المشهور "مانيوالو غراينرو".

وخلال اقامته في العاصمة الاسبانية، شرع يكتب رواية على غرار مارسيل بروست الذي كان مثاله في الكتابة آنذاك، وعند عودته إلى باريس، انكبّ على قراءة نيتشه الذي وجد في مؤلفاته ما كان قد ظل متعطشا إليه حتى ذلك الحين. بعد ذلك اكتشف فرويد، وأخذ يتردّد على زيارة عالم النفس الفرنسي ليون شاستوف "LEON CHESTOV".

في الآن نفسه، شرع يلتهم مؤلفات افلاطون وباسكال وكيركجارد. وخلافا لأصدقائه المقربين من أمثال ميشال ليريس واندريه ماسون، رفض جورج باطاي الانضمام إلى الحركة السوريالية التي كان يتزعمها اندريه بروتون، والتي كانت تشغل آنذاك الحياة الثقافية والفنية في فرنسا. ومبتعدا عن الحلقات السوريالية.

انغمس جورج باطاي في حياة الليل الباريسي، وراح يتردّد باستمرار على تلك الأماكن المغلقة حيث البغايا والنساء العاريات، في الآن نفسه، كان يتابع دروس ومحاضرات مارسيل ماوس ويقرأ هيغل ولوترايامون "معبود" السورياليين في تلك الفترة.

وفي عام 1929 أصبح الكاتب العام لمجلة جديدة حملت عنوان: "وثائق" ولم تلبث تلك المجلة أن أصبحت الناطق الرسمي لكل المعادين للحركة السوريالية وللمنشقين عنها.

وردّا على ذلك، شنّ اندريه بروتون هجومات قاسية على جورج باطاي متهما إياه بـ"المجاملة والتلطف" مع عالم قذر، وملطخ بالعار، وشنيع، وبذيء". وهو – أي جورج باطاي - "يحلّل مثل شخص على أنفه ذبابة تجعله قريبا من الأموات أكثر من الأحياء". وفي ردّه على تلك التهجمات، وصف جورج باطاي عرّاب السوريالية بـ "الأسد المخصي" وبنعوت قبيحة أخرى.

وبسبب السهرات الحمراء وكثرة التردّد على العلب الليلية، فسدت علاقة جورج باطاي بسيلفيا ماكليس التي تزوجها عام 1928، فانفصل عنها ليرتبط بكوليت بينيو "COLETTE PEIGNOT" وذلك عام1933.

وكانت أوروبا تعيش الهزات الأولى للفاشية في ايطاليا والنازية في المانيا، لما نشر جورج باطاي في مجلة "النقد الاجتماعي" سلسلة من المقالات الفكرية مثل "نقد أسس الدياليكتيك الهيغلي" و"مفهوم الإنفاق" و"البنية السيكولوجية للفاشية" وهي نصوص سوف تعتبر في ما بعد من النصوص المؤسسة لفكر مغاير وجديد. في الآن نفسه تابع محاضرات الكسندر كوجيف حول "فينومينولوجيا الروح" لهيغل. وقد صعقته تلك المحاضرات حتى أنه أصبح من المفتونين بصاحبها.

وأمام تصاعد الفاشية، بدأ جورج باطاي يتحسس المخاطر التي لاحت في الأفق مهددة أوروبا والعالم.

لذا أخذ يفكر في انجاز كتاب بعنوان: "الفاشية في فرنسا" وعندما فشلت الانتفاضة الاشتراكية في فيينا عام 1934 أي في نفس السنة التي أحرق فيها النازيون الكتب في ساحات برلين بعد أن أحرقوا "الرايشتاغ" كتب جورج باطاي يقول: "من كل ناحية، في عالم سوف ينتهي بان يكون خانقا، يشتد ضغط كابوس الفاشية".

في عام 1935، أنهى كتابة روايته البديعة "أزرق السماء" التي لن تنشر إلا عام 1957 وتصالح مع أندريه بروتون. وكان هدفه من خلال تلك المصالحة اعادة الاعتبار لـ"العنف الثوري" في عالم يغرق في الجريمة وفي ظلام الفاشية". لذلك أخذ يندّد بالاستعمار، وبالرأسمالية "المتوحشة" ويطالب بضرورة بعث ثورة أخلاقية ضد "الأساطير الفاشية".

غير أن المصالحة مع السورياليين لم تدم سوى سنة واحدة. بعدها أسس جورج باطاي مجلة "اسيفال" التي اهتمت بالأديان وعلم الاجتماع والفلسفة وفيها نشر نصا حمل عنوان: "تضحيات"، وعندما أسس "كوليج السوسيولوجيا" وذلك عام 1937 وبمشاركة اندريه ماسون وميشال ليريس وروجي كايوا كتب يقول: "كنت عازما على أن أؤسس دينا جديدا، أو على الأقل أن أمضي نحو هذا الاتجاه".

ولما توفيت كوليت بينيو عام 1938 التي كان يسميها "لور" والتي كانت تكتب قصائد بديعة، أصيب جورج باطاي بأزمة نفسية حادة. مع ذلك واصل اصدار مجلة "اسيفال" والاشراف على "الكوليج" ولم تعطل الحرب الكونية الثانية نشاطه الفكري والأدبي. ففي عام 1940 نشر "مدام ادواردا" باسم مستعار هو "بيار انجيليك". وفي عام 1942،

أنهى عمله الأساسي الذي حمل عنوان: "التجربة الداخلية". وقد صدر هذا العمل عن دار"غاليمار".وفي عام 1944، أنجز دراسة فلسفية حملت عنوان:"حول نيتشه". ورغم مرض السل الذي أصيب به فانه واصل الكتابة بشكل محموم. وظل محافظا على هذه الوتيرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حيث أنجز العديد من الأعمال الهامة في مجال الفكر والنقد مثل"القسمة الملعونة"و"نظرية الدين".وفي مجلة "نقد" "critique" نشر العديد من الدراسات حول قضايا مختلفة مثل "نيتشه والمسيح بحسب اندريه جيد".

وفي الثامن من شهر يوليو/تموز 1962 توفي جورج باطاي، وقبل ذلك قال في حوار أجرته معه الصحافية مادلين شابسال التي تعمل في مجلة "l'express" الأسبوعية: "أعتقد أني... ولعلي سوف أتبجّح.

غير أن الموت هو الذي يبدو لي مثيرا للضحك أكثر من أي شيء آخر في العالم.. ولا يعني هذا أنني لست خائفا منه! لكننا يمكن أن نضحك من شيء يخيفنا ويفزعنا. بل لعلي أذهب إلى الاعتقاد أن الضحك ".." هو ضحك الموت".

المصدر: العرب أونلاين-حسونة المصباحي

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على جورج باطاي والاحتكاك بالمستحيل (1)

oumaima‏07 ‏مارس, ‏2015

لا توجد اجوبة كافية

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
86404

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

سجل في النشرة الاخبارية في نور الله