الحضارة الكونية بين الهوية الشخصية وتعدد الثقافات1/2
لقد فرض مشكل الهوية نفسه في السنوات الأخيرة على الجميع وبقوة وأصبح يتدخل حتى في الطرق البسيطة للناس في التفكير والفعل والشعور. وازداد الأمر حدة بعد تفجر العولمة واحتدام الحروب بين الأديان والصراع بين الثقافات.
وقد تنزل على المقياس الاجتماعي في صورة الهوية الثقافية وعلى الصعيد الفردي في شكل الهوية الشخصية. ومن هذا المنظور أصبح لفظ الهوية مصطلحا باهتا ومفخخا ويتطلب اتخاذ مسافة نقدية معه. إذ يقود التناول الثقافي إلى اعتبار الهوية اعتبارا ماهويا ويسبب مواجهات ونزاعات تبدو البشرية في غنى عنها من أجل تجاوز حالة العنف وتوطيد أركان السلم.
كما يسند التناول الفردي فكرة الجوهر إلى موجود شخصي حيث ينظر إلى الأنا على أنه اسطوانة تدور حولها كل معطيات الوجود الذاتي في حركة دائمة. في هذا الإطار تعالت الأصوات من أجل الشروع الجدي في تحقيق الذات واكتشاف الوجود الشخصي الباطني أو الأصيل وقد رسم التصور البنائي بشكل جدي الرهانات ووضع الحدود بالنسبة لقضية الهوية سواء الجماعية أو الفردية.
إن التفكير النظري يلعب هنا دورا أساسيا من أجل التحرر من التصورات المشتركة والأحكام المسبقة الجوهرانية والقطع مع أسطورة الحميمي والكيفيات الخاصة التي غذت صدام الثقافات ووقفت وراء تصنيفات محور الشر ومحور الخير.
إن الاستغراق في التفكير في شرطنا الانساني واتخاذ الوقت الكافي لذلك يكشف عن زيف الحركة العائدة إلى الأصل الأول ووهم القول بوجود كائنات منعزلة وأشياء خالصة وأعراق نقية. يزداد الرهان قيمة عندما يكون رفض الآخر هو الشرط الذي ينبغي توفيره من أجل إثبات الهوية والمحافظة على تماسك الثقافة الخصوصية وصيانتها من كل اختراق أو تهديد خارجي.
لكن المفارقة التي ينبغي الإشارة إليها هي أن الآخر في زمن الأنترنت والعولمة وبعدما وقع اعتباره يشكل تهديدا افتراضيا ظل دائما غير مفهوم ووقع رسمه في شكل كاريكاتوري من أجل المسارعة بتحديد هويته.
إن حصول الأنا على كم هائل من المعلومات هو أمر ضروري من أجل فهم الغيرية الثقافية والاجتماعية للآخر. وان إثبات الهوية ليس بالأمر الهين بل مسألة دقيقة ومطلب شائك لاسيما وأن الهوية ليست أمرا قابلا للتحديدات بشكل نهائي بل تظل محل بناء سواء على المستوى الجماعي أو الفردي.
وربما الرهان النظري يتمثل في معرفة الآليات والخلفيات المنطقية التي تسمح ببناء الهويات الثقافية والشخصية.
إن قضية الهوية تثار داخل الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والأنثربولوجيا وعلم النفس التحليلي وتجرى النقاشات الحادة بين المختصين ولكن هدف الجميع هو وضع حد التمثلات التي تسلم بوجود طبيعة هوياتية وهوية واحدة لحياة الأشخاص والمجموعات. فهل الإصرار على امتلاك هوية شخصية بالنسبة للأفراد والاعتراف بواقع تعدد الثقافات بالنسبة للجماعات يمثلان عائقا يحول دون بناء الحضارة الكونية؟
ماهي المسلمات والفرضيات الضمنية التي ترتكز عليها الخطابات والقرارات بشأن قضية الهوية؟ ما الفرق بين الثقافات القومية والحضارة الكونية؟ ألا توجد مفارقة في حرص البعض على الأصالة والمحافظة على الخصوصية والبحث عن طرق التحديث ومواكبة العصرنة وتبني وجهة نظر العقلانية العلمية والتقنية؟
ألا يجب التخلي عن الماضي الثقافي القديم من أجل القيام بالتحديث؟ أم أن الأمر يتعلق بايقاظ ثقافة قديمة نائمة من أجل المساهمة في صناعة الكونية؟ ماذا يحدث عندما تلتقي ثقافات متنوعة ومختلفة؟ هل يؤدي ذلك إلى صراع الهويات وتصادم الخصوصيات والتقاتل بين الجميع أم أن اللقاء يكون تفاعليا توليديا؟
لكن كيف يكون التقاء ثقافات متنوعة ممكنا؟ وما مصير قيم بعض الهويات عندما تصطدم بقيم ثقافات أخرى غازية ومتطورة؟ هل تموت بعض الخصوصيات من جراء العولمة أم أن عدة ثقافات تحافظ على نواتها الخلاقة؟ فما الذي يمثل الجوهر الإبداعي في أية ثقافة؟ وضمن أية شروط يمكن لهذه الإبداعية أن تستمر؟
وهل انفتاحها على الآخر يهددها أم يثريها؟ وهل من حل بالنسبة للهويات لمشكلات التواجد مع الآخر في العولمي؟ وماذا يعني أن تكون لك هوية عالمية وأن تفكر وتتصرف كمواطن عالمي أي باعتبارك كسموبوليتيا؟
ما نراهن عليه هو تفادي المقاربة الانعزالية الانفرادية للهوية التي ترى الكائنات البشرية أعضاء في جماعة واحدة وتقوم بتمييزهم على أساس لغوي أو ديني أو عرقي وثقافي، والتوجه نحو بناء فهم أوضح لتعددية الهوية الإنسانية من أجل أن يسود الانسجام والوئام والتفاعل بين مختلف الخصوصيات.
الهوية الشخصية
"هنا مفهوم الشخص بوصفه غاية في حد ذاتها يأتي ليقيم التوازن مع مفهوم الإنسانية لأنه يدخل في صياغة الأمر المطلق نفسه التمييز بين شخصك وشخص كل بشري آخر. مع الشخص فقط تأتي التعددية".
لا تقتصر الهوية على ما يدركه الإنسان من ذاته بل تفيد بقاء الشخص هو عينه على الرغم من تغير الأحداث التي تطرأ عليه بناء على شعوره وتذكره للماضي، إن الإنسان يملك هوية خاصة به على امتداد حياته حتى في ظل مروره بمراحل متعددة وخوضه لتجارب مختلفة. وتتمثل الهوية الشخصية للإنسان في وعيه بذاته وعند لوك في "اعتبار نفسه بمثابة الهوهو بوصفه شيئا واحدا في أزمنة وأماكن مختلفة وما يفعله بدافع الإحساس فقط بأفعاله الخاصة لا ينفصل عن الفكر بل يبدو ملازما له تماما."
إن المقصود هو أن الهوية ليست جوهرانية ماهوية كما هو الأمر عند أرسطو ولا تقوم على تعالي الأنا أفكر عن العالم وعن الجسم المادي كما هو الشأن عند ديكارت بل متعينة في المادة وتقوم على تمايز الأفراد عن بعضهم البعض وتلازم بين الإحساس والفكر، ويضيف في السياق نفسه: "بما أن الإحساس يصحب دائما الفكر وأن كل امرئ يكون هاهنا هو عينه ما يسميه الذات عينها كما أنه يتميز عن أي شيء آخر يفكر فمن هذا الناحية فقط تكون الهوية الشخصية".
يترتب عن هذا أن الإنسان يتميز عن الشخص، فالإنسان يمثل عضوية لا تختلف هويته عن هوية أي إنسان آخر، بينما الشخص هو محمول على ماهو مادي ونفسي معا بما يمكنه من أن يعتبر نفسه هو هو. هنا يرفض لوك التصور الميتافيزيقي الذي يختزل الهوية الشخصية في النفس ويعتبرها جوهرا لاماديا ويرفض كذلك التصور الفزيولوجي الذي يماثل بين الأنا والعضوية. من أجل توضيح فكرته يفترض لوك أمير تنقل ذاكرته وتزرع في جسد اسكافي مما يثير الإشكال التالي: هل نكون أمام أمير يجد نفسه سجين جسد اسكافي أم نحن أمام اسكافي يعتبر نفسه أميرا؟
لقد كان الجواب على النحو التالي: إن الموجود المتشكل من جسد الاسكافي وذاكرة الأمير هو في نفس الوقت الإنسان عينه الذي يمثله الأمير والاسكافي لكونهما يمتلكان نفس الجسد ومادامت الذاكرة مستمرة الحضور بينهما. إن التذكر هو أساس استمرارية شعور الأنا باستمراريته لأنه يستلزم بقاء الأنا المتذكر هو عينه.
نستخلص من ذلك أن الهوية الشخصية تحيل على ما تختص به الذات من تفرد ووحدة وتشمل الوعي بالذات وتمثل الفرد لها وبالتالي تعني حقيقة الشيء أو ما يكون به الشيء نفسه، فهي حقيقة الشخص المشتملة على صفاته الجوهرية العينية وتشير إلى الخصوصية والوجود الفردي الذي لا يقع فيه اشتراك. ما يجدر ملاحظته هنا هو "أن نفهم الوجود الخاص هو أن نتموقع سلفا في ما وراء الخاص- وأن نرتبط بماهو خاص هو أن نعرف دوما بواسطة ماهو كوني".
هكذا تقترب الهوية الشخصية من الهوية الذاتية والعينية وترتبط بالوحدة والتماثل والتطابق والمساواة وقد عبر معجم روبارت عن ذلك بتأكيده على أن الهوية تدل على الميزة الثابتة في الذات وركز على ماهو متماثل سواء تعلق الأمر باستمرارية الفرد مع نفسه أو مع الأشياء الخارجية.
إذا أردنا التوضيح أكثر فإننا نسمى هوية كل ما يتعلق بالتصورات الماهوية سواء تعلق الأمر بالمقاربات الذاتوية التي تفهم الهوية على أنها أنا ماهوي موحد وباطني أو بالمقاربات الموضوعية التي تفهم الهوية على أنها ماهية جماعية أو ثقافية مطروحة على الأفراد.
ينبغي أن نتخلى عن ايديولوجيا التمركز على الذات ونعترف بوهمية الأنا المحض أو المجرد ونشرع في مواكبة التطورات الفكرية التي قادت إلى تفادي التعامل مع الهوية الشخصية على أنها جوهر موحد منفصل عن العالم. إن الخطأ الذي وقعت فيه التصورات الفلسفية الحديثة هو أنها فصلت الفرد عن العالم المادي والاجتماعي واعتقدت في وجود نواة ثابتة وأولية وجوهرانية تحدد طبيعة الكائن البشري.
في هذا الإطار ظهرت أفكار داخل الفلسفة وعلم النفس التحليلي وعلم الاجتماع تحاول تفنيد الذاتوية الفلسفية وترفض تعالي الأنا المطروح بكونه مقولة متعالية وتتحرك ضمن باراديغمتين أساسيتين:
الباراديغم الأول ناضل ضد التصورات التي تنظر إلى الهوية الشخصية على أنها جوهر باطني ويمثله كل من ماركس ودوركايم ويفكر في الهوية ليس باعتبارها حائزة على طبيعة باطنية وأصلية لكائن بل على العكس من ذلك بوصفها حصيلة اندراج هذا الكائن البشري ضمن مجتمع معين وتمثل بطريقة ذاتية أساليبه في الشعور والفعل والتفكير.
الباراديغم الثاني يتجه نحو توخي مسارات بنائية للهوية من خلال منظورية تفاعلية وبعيدة كل البعد عن الماهوية ولكنه لا يغالي في طلب اندماج الكائن البشري بالحياة الاجتماعية بل يتخذ مسافة منها ويضعها موضع حوار وجدل ويكتفي بإعادة وضع الإنسان في العالم وإعادة نمذجة البعد الاجتماعي. هنا يظهر الكائن البشري بوصفه فاعلا قادرا على تشييد فضاء بينه وبين السندات الهوياتية التي يعتمد عليها من أجل إبداع هويته.
إن الهوية المتناولة في معناها الفردية تبدو اليوم مجرد مقولة فضفاضة لأنها متمفصلة بالنسبة إلى المعرفة العالمة والفكر اليومي إلى ثلاثة أفكار قوية هي: الوحدة والجوهر والباطنية. إن جهدنا سينصب على إظهار أن هذه الأفكار الثلاثة ليست معطيات طبيعية لوجودنا بل قوتها مستمدة من تخمين بعض النظريات ومن تمثلات فلسفية قديمة. إن المنظورات الماهوية بعيدة كل البعد عن الحقيقة وغير قادرة على الصمود أمام التطورات الملاحظة في مجال العلوم الاجتماعية خاصة والإنسانيات عامة.
على هذا النحو "إن معنى الحياة والهوية لا يصدران إذن بأي شكل من جوهر ما قبل هوياتي".
إن الهوية الشخصية هي مشابهة لنوع من البناء الموجود سلفا والذي يقطنه الأنا ويفصله عن الهويات الفردية المنغلقة على ماهية معينة. إن العمل على إدراج الإنسان في العالم الذي يحيط به يعني المرور من وضع التعالي إلى حالة المحايثة والقول بأن الأنا المتعالي الذي ينظر إلى نفسه على أنها جوهر مفكر لم يعد يعني شيئا كبيرا. لقد فقد الهوية الشخصية مع هيوم ولوك وفرويد قداستها وأوليتها واندمجت بطريقة أو بأخرى مع الحركة اللامتناهية للعالم.
إن إفراغ الهوية الشخصية من كل حمولة يعود إلى استحالة تحولها إلى فراغ وان مسار العلمنة هذا تقوم به الفنومنولوجيا الاجتماعية والوجودية وينتهي بمنح دور للغير في انبثاق الوعي بالذات. يمكن إضافة معاني الوحدة والباطنية إلى فكرة العلاقة بالعالم خاصة عندما يعرف الشخص الانساني بأنه بنية تتصف ببعض التساوق المفتوح وفي نفس الوقت باطنية لا تقبل النفاذ بشكل جزئي. إن الكائن البشري بشكل أو بآخر هو انفتاح على العالم.
"إن الهوية ليست مسألة شخصية فقط. إذ يجب أن تعاش في العالم عبر حوار مع الآخرين وطبقا لوجهة نظر الشارحين البنائيين فإنه من خلال هذا الحوار تولد الهوية. لكنها ليست الوسيلة التي تخبر بها الهوية. فمن وجهة نظر ذاتية تكتشف الهوية داخل الشخص نفسه وهي تعبر عن الهوية في وجود الآخرين.
وتعثر الذات الداخلية على موطنها في العالم من خلال المشاركة في الهوية الجماعية.وغالبا ما يعبر عن هذا التوحد بعبارات رفيعة وغامضة وتنضم نفسي الحقيقية إلى الحياة الروحية للمجتمع".
لكن كيف تتحقق الهوية الاجتماعية من خلال التعرف على الذات عن طريق الخارج وربطها بجملة من الأنظمة المشتركة مع الآخرين؟ وما دور الثقافة في شد أعضاء المجتمع الواحد وفي تمييزه عن المجتمعات الأخرى؟ ما السر في أن الهوية يمكن أن تكون مصدرا للعنف والاستبعاد من جهة ومصدر للثراء والثقة من جهة أخرى؟ فماذا يجني الناس من وراء إصرارهم على الانتماء إلى هويات؟ وهل الهوية شر أم خير؟
التعددية الثقافية
"الهوية تدرك من خلال المشاركة في الثقافة... وأن المفاهيم المتعلقة ببناء الهوية وتلك الخاصة بالثقافة ولدتا معا".
يصعب تدقيق مفهوم الثقافة وذلك للاتجانسه وتعقيده وتضخم دلالاته وتنوع رسومه إلى حد حديث البعض عن عولمة الثقافة والصناعة الثقافية وثقافة إضاعة الوقت.
لكن يسهل علينا ربط الثقافة بالإنسان لأن الثقافة مفهوم أناسي تجعل الإنسان ذاتا متناهية قبلة للتشكيل إلى ملا نهاية لها ومنفتحة على العالم ومجبرة صنع ذاتها والعالم في كل مرة ولأن "الإنسان كائن ثقافي بالطبع وهو لا يصبح إنسانا إلا بفضل الثقافة"، و"بذلك تتوسع الثقافة لتشمل الشروط المادية والروحية والاجتماعي والسياسي من المنتجات ومن ذلك أشكال مختلفة من الحياة ومن مجالات المخاييل.
فالثقافة تشكل جسد الإنسان وهي في نفس الوقت ثمرة من ثمرات هذا التشكيل وهي تنتج في الأعراف والتجديدات تغيرا وتواصلا بين الماضي والحاضر والمستقبل...إن الثقافة حركية وهي ممارسة وعملية. والثقافة ليست واحدة بل كل واحدة منها تشمل العديد من الثقافات".
إلى وقت قريب ثمة إجماع بشأن موضوع الثقافة وأصبح هذا المفهوم هو العملة الرائجة وتم الاتفاق على أن الثقافة ليست مسألة عرق بل مكتسبة وغير متوارثة جينيا وتتقدم بشكل مطرد وبمعدل متسارع وتتعلق بالأفكار والقيم والرموز التي تعبر عن رؤية للكون وعن الفضيلة والجمال ضمن تنظيم جمعي للفكر.
لكن على الرغم من أن الجميع يتحدثون اليوم عن الثقافة فإنهم لا يتطلعون إلى تبعات القول بالهوية الثقافية ويتجاهلون الإحراجات المتعلقة بالتعددية الثقافية. وقد انعكس عن ذلك اتجاه النقاش بشأن الهوية الثقافية نحو السياسة وبدأ الكلام عن الثقافة بماهي شأن سياسي وأكد البعض من أن الثقافة هي الأقدر على معالجة المسألة السياسية الكبيرة وذكروا بأن الاعتراف بالتعددية الثقافية هو حركة تدعو إلى التغيير.
تتضمن الهوية الثقافية كل ماهو مشترك بين جميع أفراد المجتمع مثل القواعد والمثل والقيم. ولكن إذا بنيت على أساس الوحدة والتطابق والتماثل تصبح الهوية الثقافية هوية ثابتة تلغي إمكانية التغير في الزمان وتتشكل نواة صلبة تحدد تاريخها وملامحها الخاصة وتسعى إلى المحافظة عليها والوفاء إليها.
لكن الهوية الثقافية لا تفهم دائما في إطار المطابقة التامة مع الذات الجماعية بل يمكن أن تتحقق في سياق التفاعل مع المباين والمختلف والمغاير من الهويات الثقافية الأخرى ويمكن أن نتحدث هنا عن التثاقف وعن الهوية بين ثقافية في وضعية التلاقح والتخاصب بين خصوصيات متنوعة وثقافات متعددة.
في هذا السياق يقول أودمند هوسرل: "أكون مع ثقافتي دائرة أولية لثقافة أجنبية يمكنني أن أبلغها، مع أولئك الذين يشاركونني مشاركة مباشرة، بنوع من تجربة الآخر".
ظهر مصطلح التعددية الثقافية للتمييز أولا بين الثقافة الرسمية التي تدعي الرفعة والسمو وترتبط بالنخبة وتتشكل في الدوائر الضيقة للأرستقراطية وفي صالونات البرجوازية وبين الثقافية الشعبية الجماهيرية التي تمتد من الفلكلور إلى الفن البروليتاري وتعامل بتعاطف من قبل الناس الذين يحرصون على المحافظة عليها وتوريثها وتتوجه نحو مقاومة الهيمنة المسلطة عليها من طرف ثقافة الاستهلاك والقوة القمعية للطبقة الحاكمة وتدحض شرعيتها وتطعن في الريادة الأكاديمية للثقافة الرسمية وتحس بأن عليها واجب مدني لفضح العولمة الامبريالية والتغريب الثقافي لدول الأطراف والسلطة البطرياركية.
لقد مثلت التعددية الثقافية فرصة سانحة من أجل كشف مخاطر العولمة على النسيج المجتمعي والبيئة واستقرار الشعوب واستمرارية الخصوصيات وعبرت عن مشكلات مقلقة وتحديات أكثر تدميرا تجاه الثقافات المحلية والسعي المتزايد نحو اعتماد نموذج ثقافي واحد للتعرف على نمط الحياة الحضاري في أي بقعة من المعمورة.
بيد أن حركة التعددية الثقافية عرفت اتجاهين: الأول هو تعددية ثقافية الاختلاف multiculturalisme de la différence يتجه نحو الداخل ويأخذ مصلحة الخصوصية الذاتية بعين الاعتبار ويتبنى الخطاب المدحي الافتخاري من أجل تعزيز شعور ثقافة معينة بالعظمة والتفوق ويجعل من ذلك سبيلا للمحافظة على بقائها واستمرارها.
الاتجاه الثاني هو تعددية ثقافية النقد multiculturalisme critique يتجه نحو الخارج متأثرة بالدراسات الثقافية ويناضل ضد التماثل والهوية ويسعى إلى إعطاء حقوق للأقليات ويكشف عن ضعف خطاب الأغلبية السائد وصمته وتهميشه لبعض الفئات ويحاول تفكيك التحيز الثقافي للطبقة الاجتماعية السائدة ولذلك لا يرى في وجود تنوع وفوارق في الخصوصيات داخل نفس المجتمع أي خطر يهدده بالتقويض بل ينظر إلى ذلك أنه عامل عادي ومصدر اغتناء وقوة.
من هذا المنطلق تنبني التعددية الثقافية على خطاب يدعو إلى التكافؤ بين الخصوصيات والمساواة في اعتبار الرموز والقيم الخاصة بالهويات الصغيرة في تكوينية الهوية الكبرى للمجتمع ويؤكد الاختلاف ويدعو إلى إجماع ثقافي والمشاركة في نشر الحضارة الكونية. في السياق نفسه يقول آدم كوبر:"تترجم التعددية الثقافية هذه الافتراضات في صورة برنامج سياسي يؤكد الاختلاف وقيمته ويبحث عن منح كل مجموعة ثقافية قدرا مناسبا من حق تقرير المصير وصوتا مساويا في الشؤون الجمعية".
إن التعددية الثقافية هي قيمة لا يمكن إنكارها لأن محافظات الجماعات على نفسها لا يكون بتعزيز القواسم المشتركة التي تربط بينها بل بقدرتها على إحداث اختلاف حقيقي وإبراز التنوع الداخلي.
غير أن التعددية الثقافية تؤثر على سياسات الهوية والاختلاف وتتبنى التمييز الايجابي وتصبح سياسات البلدان مملاة من قبل الهويات الثقافية ولا يجد الفرد احتراما لقيمه وخصوصيته إلا في السياق الثقافي الملائم له ويطالب بالتضحية بذاتيته ومحليته من أجل إرساء دعائم هوية مجتمعية مستقلة. إن ماهو مطلوب في مجتمع متعدد الثقافات هو التوقف عن إسناد الهوية إلى بيولوجيا بدائية وتركيزها على احترام الاختلاف وانصهار الآفاق واغناء التنوع وبالتالي يجب احترام الاختلاف الثقافي وتعزيزه. "إن التنوع هو عامل أقل تأثيرا في عزل المجتمعات عن العلاقات التي توحدها".
إن التطرق إلى الهوية الجمعية هو أمر مهم من أجل التضحية بالمصالح الفئوية لمصلحة التماسك الثقافي ومن أجل التعالي على منطق الهوية الشخصية وتركيزها على الحقوق الفردية وتسببها في الاضطرابات العرقية والتوتر الاثني نتيجة الشعور بالحرمان وسوء المعاملة والتمييز. كما أن الثقافة هي دوما الجسر الذي يربط الأفراد بهوياتهم وينبغي ألا نبنيها على العرق حتى لا ننحدر إلى الجوهرانية.
إن الثقافة هي التي تمنح الشخص هويته ولكن كل من الهوية والثقافة يتشكلان بحرية. إن الهوية تبدو مسألة اختيار ثقافي شخصي وحتى إن كان للشخص هوية أصلية جوهرانية تنبع من الشخصية الجمعية التي ينتمي إليها فإنه يستطيع أن يندمج في هوية ثقافية جديدة بفضل قدرته على التأقلم والتكيف.
ننتهي إلى أن كل ثقافة هي متعددة الثقافات وأن القيم متغيرة من ثقافة إلى أخرى ولذلك لا يجوز قياس المجتمعات بقياس واحد وأن غالبية الناس ينظرون إلى الآخرين على أنهم أقل منهم شأنا ويصرون على اختلافهم عنهم ورفعتهم وتفوقهم ويشتركون في القدرة على التعلم والاستيعاب والاقتباس وما يتقاسمونه هو الذي ينتج الخلافات بينهم وما يختلفون فيه هو الذي يساعد في نهاية المطاف على توحيدهم.
فكيف تتحول الثقافة إلى سلسلة من العمليات التي تقوم بهدم منطق الملة الجماعية وإزالة الهوية الشخصية وتعمل على بناء الكونية الإنسانية؟ وكيف يمكن أن يلعب الإحساس بالهوية دورا حاسما في جعل العلاقة مع الآخرين قوية ودافئة ويجعلنا نفكر في بعضنا البعض ويساعدنا على تجاوز حياتنا المتمركزة حول أنفسنا؟
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!