|

ملف وقضيةالإسلام والمسلمون في العالم › دور الأقليات الإسلامية في العالم

أولاً: كنا بحاجة إلى دراسة هذا الموضوع قبل 11 من سبتمبر 2001م وما تلاه من أحداث لأسباب كثيرة، من أهمها: ـ ا. إن شكل العلاقات الدولية تغير عما كان عليه في الماضي، وعما هو موجود في كتب الفقه القديم من تقسيم العالم إلى دار سلام ودار حرب حيث انفتحت حدود الدول، وأصبح العالم منذ مدة طويلة أكثر اتصالاً بعضه ببعض، وأكثر ترابطاً في المصالح، ونتيجة التطورات السياسية والاقتصادية والصناعية. 2. إن العالم الإسلامي ـ رغم تفجر ثروات كثيرة من باطنه ـ مازالت غالبيته العظمى تعيش تحت خط الفقر، أو حوله على أحسن تقدير، مما يضطر كثيرين من المسلمين إلى الهجرة من بلادهم طلباً للرزق في بلاد غير إسلامية، لأنها أكثر رخاء، وأكثر استيعاباً للقوى العاملة، فلديها مزيد من فرص العمل التي يتطلبها الإنتاج الذي يتسم بالوفرة. 3. إن العالم الإسلامي رغم دعوة الإسلام إلى العلم وتسخير الكون لم يزل مستواه العلمي أقل من مستوى كثير من البلاد الأوروبية والأمريكية مما اقتضى إرسال البعثات العلمية من أبناء المسلمين إلى هذه الدول لكي يدرسوا فيها آخر ما وصلت إليه من العلوم والتكنولوجيا. 4. إن التطور السياسي العالمي وما اقتضاه من وجود منابر عالمية ومنظمات إنسانية جامعة توجد أغلب مراكزها الأساسية في أوروبا وأمريكا كمنظمة الأمم المتحدة، ومنظمة اليونسكو، ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية، واتحاد البرلمانات الدولية .. وغيرها، وحرص المسلمين على واجب اشتراكهم في هذه المنظمات الدولية، كما يحرصون على تدعيم سفاراتهم في بلاد العالم، مما اقتضى كذلك إرسال البعثات الدبلوماسية إلى هذه البلاد. 5. كما أن البلاد غير الإسلامية بطبيعة تقدمها الصناعي أصبحت محط حاجة المسلمين إلى استيراد المصنوعات من هذه البلاد خاصة أن هذه المصنوعات أصبح استخدامها ضرورة للحياة المعاصرة في أي مكان في العالم من: السيارات، وأجهزة الاتصال، وأجهزة التبريد والتدفئة وغيرها مما لا يحصى، مما ولد طبقة من التجار الذاهبين والآيبين إلى هذه البلاد، كما ولد مجموعة ضخمة من شركات الاستيراد والتصدير بعمالها الذين يعدون بالآلاف أو الملايين الذين يقيمون في بلاد المنشأ لهذه المصنوعات. 6. ثم إن أنظمة الإدارة في معظم البلاد الإسلامية لازالت أقل كفاءة عن مثيلتها في الدول الأوروبية والأمريكية وغيرها من الدول المتقدمة، مما يشعر معها الموظف في البلاد الإسلامية بالحاجة إلى الهجرة والعمل في الدول المتقدمة حيث يجد فرصته التي تقدر كفاءته في دولاب النظام الإداري في هذه الدول، وتعطيه حقوقه على قدر كفاءته، الأمر الذي لا يجده في أكثر البلاد الإسلامية. 7. كذلك، فإن أنظمة الحكم في كثير من البلاد الإسلامية ـ رغم تأكيد الإسلام على دعائم الحكم الأساسية في الإسلام من الشورى والعدل والمساواة وتحقيق كرامة الإنسان ـ مازالت أقل من أنظمة الحكم في الدول المتقدمة تحقيقاً للديمقراطية وكفالة للحريات العامة، مما اقتضى هجرة الشاعرين بالحاجة إلى الحرية والكرامة والعدل والمساواة التي يفتقدونها في بلادهم إلى البلاد الأجنبية التي يجدون فيها ضالتهم المنشودة. 8. حتى العلماء أنفسهم الذين لا يجدون القاعدة العلمية في أكثر البلاد الإسلامية التي لا توفر هذه القاعدة التي تتطلب نظاماً علمياً عاماً توفر له الإمكانات العديدة من أموال وكفاءات ومناخ عام للبحث العلمي وقوانين تيسر كل ذلك. كل هؤلاء هاجروا إلى بلاد غير إسلامية تتوفر فيها القاعدة العلمية والمناخ العلمي. 9. إذا كانت الأسباب والروافد المتقدمة قد أوجدت أعداداً كبيرة من المهاجرين المسلمين إلى بلاد غير إسلامية، فقد وجدت أعداد كبيرة من أبناء هذه البلاد غير الإسلامية نفسها ورأت في الإسلام ديناً جديداً يوفر لها ما قد تبحث عنه من ملء للفراغ الروحي والقلق النفسي، لأن هذه البلاد رغم ما قدمت من علم تجريبي وديمقراطية سياسية واجتماعية فشلت في تحقيق الأمان النفسي والطمأنينة بإبعادها الدين عن الحياة العملية وعلمنة الأنشطة الحيوية مما تسبب في لجوء الكثيرين من أبنائها إلى التماس الطمأنينة في الأديان التي وقع لها الاقتراب منها ومعرفتها، لاسيما أن التقدم الثقافي في البلاد غير الإسلامية جعل الشعوب هناك تفلت من سيطرة القوى التي كانت تحتكر المعرفة وتسيطر على عقول هذه الشعوب أحياناً كثيرة بتزييف الإسلام وإثارة نعرات التعصب الديني ضده فأصبحت هذه الشعوب تعتمد على نفسها بتحصيل معلوماتها بنفسها، فانهارت أو اضمحلت سلطة المستشرقين القدامى على العقول، فدخل في الإسلام من أبناء هذه الشعوب العدد الكثير الذين باتوا يعدون الملايين الذين تحسب لهم شعوبهم وحكوماتهم الحساب، وينبني على سلوكهم وتعبيرهم عن القيم التي يؤمنون بها ويطبقونها في حياتهم النتائج المهمة خدمة لمجتمعاتهم، وخدمة لتعريف الإنسانية كلها بإيجابيات هذا الدين، كل هذه العوامل والأسباب أدت إلى خلق واقع جديد في قلب العالم الغربي يعتمد على تفاعل الجالية الإسلامية التي تكونت في هذا الواقع بفعل هذه العوامل، مما كان يحتم منذ انبثاق هذا الواقع دراسة تحديد الدور الذي ينبغي أن تقوم به هذه الجاليات خدمة لمجتمعاتها، وللإنسانية كافة، ولدينها بطبيعة الحال، من حيث التعريف بهذا الدين وتجسيد هذه المعرفة في شكل مواقف وسلوكيات نافعة للإنسانية عامة ولهذه المجتمعات على الخصوص .. ولابد أن نسجل هنا مقارنة بين الهجرات المعاصرة وهجرة المسلمين الأوائل الذين خرجوا من الجزيرة العربية في صدر الإسلام يبتغون الرزق ويضربون في مناكب الأرض في اتجاه الشرق في آسيا وجنوب شرقها في إندونيسيا وماليزيا بوجه خاص، بل بعدت بهم الهجرة إلى الهند والصين. وقد كانت هذه الهجرات ناجحة بكل المقاييس، حيث استطاع أولئك المهاجرون القلائل أن يندمجوا في مجتمعاتهم ويحافظوا ـ في نفس الوقت ـ على أصالتهم الإسلامية وثوابتهم العقدية، ويعبروا عن مقاصد الإسلام وغايته أجل تعبير حتى استطاعوا ـ وهم قلة ـ أن يعرفوا أهل هذه البلاد التي هاجروا إليها الإسلام في سموه وسماحته ومطابقته للفطرة الإنسانية النقية. فيؤمن أهل تلك البلاد بالإسلام طوعاً حتى انتشر الإسلام وغطى الغالبية العظمى، بل استطاعوا أن يصلوا إلى الحكم برغبة أهل هذه البلاد وطواعيتهم، فقد كان العنصر الإسلامي هو العنصر الحاكم في الهند إلى سنة 1875م ولم ينته إلا بدخول الإنجليز الذين أثاروا النزعات الدينية والتعصب الطائفي والعرقي وساندوا انفصال المسلمين في معظمهم عن الهند، ومازالت الشعوب الآسيوية في إندونيسيا وماليزيا ترى في الإسلام دينها وعقيدتها ونظام حياتها وحكمها المفضل الذي لا ترتضى به بديلا منذ مئات السنين. وقد نجحت هذه الهجرات الأولى رغم أنها جميعاً كانت متوجهة إلى بلاد وثنية ـ جنوب وشرق آسيا ـ ومع ذلك استطاعت التفاعل مع الوثنيين أهل هذه البلاد، واندمجوا في مجتمعاتهم ولم يتخلوا في الوقت نفسه عن خصائصهم الذاتية ولم يجدوا في ذلك صعوبة أو مشقة. وهنا يأتي الحديث عن: 1. قدرة الإسلام على احتضان البشر وجذبهم إلى قيمه ومبادئه وسلوكياته، مهما تعددت أديانهم واختلفت جنسياتهم. 2. دور المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى بلاد إسلامية مختلفة الديانات سواء كان هذا الدور: أ. في فهم القيم العامة للإسلام، وأنماط الحياة التي يقدمها، تلك القيم والأنماط التي تقوم على رعاية مصالح العباد، والالتقاء مع المشترك الثقافي والقيمي الذي يوجد في الأديان والمجتمعات الأخرى والانطلاق من هذه المشتركات الثقافية إلى آفاق رحبة من التعاون في تحقيق مجتمع تتجاذب أطرافه، بحيث يجذب بعضها بعضاً لتتلاقى ولا تتنافر أو تتعادى وتتخاصم مع الاحتفاظ بثوابت الإسلام ومقاصده العامة. ب. أو كان هذا الدور في التعبير عن قيم الإسلام وأنماطه وصياغاته للحياة الإنسانية الراقية وسلوكياته في التعبير عن هذه القيم وأثر هذه السلوكيات على مجتمعاتهم التي عاشوا فيها. 3. دور المسلمين الذين هاجروا إلى بلاد غير إسلامية في عصرنا الحاضر، وتقييم هذا الدور، وما ينبغي أن يكونوا عليه فهماً لقيم الإسلام وسلوكاً وتعبيراً عن هذه القيم .. ثانياً: ففيما يتعلق بقدرة الإسلام على احتضان البشر واستيعابهم وجذبهم إلى قيمه ومبادئه رغم تعدد الأديان واختلاف الجنسيات فإن الإسلام يملك إمكانات ضخمة في هذا الصدد .. 1. فالإسلام يقوم على التعايش السلمي بين البشر جميعاً من كافة الأجناس تعايشاً يقوم على الإخاء الإنساني العام الذي يربط بين أفراد البشر من كل الأمم، فالإسلام يرسي الأخوة الإنسانية العامة بينهم على أنهم أبناء أب واحد؛ حيث أكد الرسول صلى الله عليه وسلم في أهم خطبة يوم حجة الوداع: "أيها الناس .. كلكم لآدم" (مسند احمد 5/411). وأكد القرآن الكريم هذه الأخوة في أكثر من آية حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } (سورة النساء: 1) وحيث قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (سورة الأعراف: 189) وحيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات: 13) وهو بهذا قضى من أول لحظة على التفرقة العنصرية، وادعاء تسامي جنس على جنس أو دم على دم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" (أحمد 15/411، مجمع الزوائد 8/84) فالمسلم بمقتضى هذه التوجيهات القرآنية والنبوية الأكيدة يحترم كل الأجناس، إذ لا توجد لديه نزعة سامية يتعالى بها على أحد، فهو يعامل الجميع من منطلق الأخوة والمساواة .. 2. كما أن الإسلام يحترم كافة الأديان والرسالات السماوية، فهو مصدق بالحق الذي جاء في هذه الرسالات، بوصفه امتداداً لها، وخاتماً لبعثاتها، وشاملاً لما جاء فيها، يقول تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (سورة المائدة: 48) ويقول سبحانه: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } (سورة فصلت: 43) فأصول العقائد في أصلها وحقيقتها واحدة .. ورغم اختلافها في بعض الشرائع وبعض التصورات العقدية التي قد تبدو أساسية إلا أن هناك شيئاً ما يربط بينها، ولذلك سمى القرآن أهل هذه الأديان أهل الكتاب، وأباح أكل طعامهم وذبائحهم، والزواج من نسائهم، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (سورة المائدة: 5) 3. ولغة القرآن لغة تصالحية مع العالم حتى مع أهل الأديان المخالفة تمام المخالفة للإسلام، ففي هذا الخلاف يجب على المسلم أن يعرف مهمته التي حددها له القرآن أن يعرف الإسلام بالحسنى، ولا عليه بعد ذلك أن يكره أحداً، قال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } (سورة يونس: 99) ويقول سبحانه: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } (سورة الغاشية: 22) وعلى المسلم أن يقبل تعدد الأديان في العالم على أنه سنة كونية لا سبيل إلى إزالتها أو القضاء عليها؛ لأن الله من حكمته شاء ذلك ولو شاء غيرها لفعل، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (سورة هود: 118، 119) ومن سمو أدب اللغة القرآنية وتصالحها مع العالم مخاطبته للمخالفين بمثل قوله تعالى يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أدب الخطاب: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ "24" قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (سورة سبأ: 24، 25) وقد يظن من يقف عند هذه الآية أنها تمثل قمة التسامح الإسلامي عندما يضع احتمالي الهدى والضلال لدى طرافي الخلاف ـ المسلمين وغيرهم ـ ولكن المتتبع لآي القرآن يجد آية أخرى تنهى عن سبب ما يعبد غير الله، وهو غاية ما تصل إليه الحكمة في الخطاب عندما يقول الله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (سورة الأنعام: 108) إذ إن هذه الآية تحرم التعرض بالسب لغير المؤمنين حتى لا يتطرق تبادل المسابة إلى سب الله تعالى وهذا تخويف للمسلم من أن يرتكب هذا المنهي عنه مخافة عاقبة من تسبه في تعريض الذات العلية التي يحرص المؤمن بطبيعة الحال على الحفاظ على قدسيتها وتنزهها وتعاليها فيمسك لسانه ويترك أمر التعرض بالقذف للعقائد نهائياً .. ولقد أفادت السنة أن من يتسبب في ذلك فإنه يحمل وزر سب الذات الإلهية ـ المتعالية ـ إن وقع، حيث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسب الرجل أباه فلما سئل: كيف يسب الرجل أباه، قال عليه الصلاة والسلام: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه" ثم إن الإسلام ـ في تعامله مع الأديان والحضارات الأخرى ـ لا يمنع على المسلم أن يأخذ من هذه الأديان والحضارات ما يراه متلائماً مع المنظومة الخلقية في الإسلام مهما كانت عقيدة هذه الأديان والحضارات، طالما كانت الشرائع والخصوصيات الإسلامية محترمة ومصونة .. فالإسلام أقر بعض العادات والتقاليد التي كانت موجودة في الجاهلية، وسلكها في منظومته؛ لأنها تتفق مع هذه المنظومة، واصطحب بعض ما كان يقع في الجاهلية وهي وثنية وعدل فيها حتى تتفق مع قيم الإسلام وشرائعه .. ذلك أن المنظومة القيمية في الإسلام هي نفسها منظومة القيم الإنسانية العامة التي يجمع كل إنسان على أنها معايير صحيحة للأخلاق لا يختلف عليها من مكان إلى مكان، أو من مجتمع إلى مجتمع، وإن حدث اختلاف في الكيفيات والوسائل، فالصدق مثلاً قيمة عامة، وهكذا قيم الحق والخير قيم عامة، والحرية مع أنها قيمة عامة مطلوب إلا أن الاختلاف في مدى هذه الحرية وكيفياتها نظراً للاختلاف فيما يترتب عليها من ضرر إذا ترتب عليها وجب ضبطها. ومع إقرار الإسلام لبعض قيم الجاهلية إلى درجة التحمس لها والدعوة إليها إلى درجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ذكر أنه حضر حلفاً في الجاهلية اسمه (حلف الفضول) وقال: "لو دعيت به في الإسلام لأجبت" لأن نصرة المظلوم التي كانت قيمة عربية يدين بها العرب الوثنيون لا يمنع الإسلام أخذها وضمها إلى سلسلة منظومته؛ لأنها تتفق مع قيمه ـ بقطع النظر ـ عمن كانوا يدينون بها .. ذلك أن الإسلام يستخلص من أديان العالم وحضاراته ما يتفق معه، وحين يسلكها في نظامه فإنها تصبح إسلامية مهما كان مصدرها أو مجتمعها، وهذه موضوعية تحسب للإسلام في إطار التبادل الحضاري البناء فيما يمكن أن يكون منفعة للإنسانية .. أما فيما يتعلق بالعقائد الأساسية والخصوصيات التي تتعلق بهذه العقائد فإن الإسلام يوجب على المسلم أن يتمسك بها للحفاظ على الذاتية .. ويلاحظ على هذه الخصوصيات أنها دائرة محدودة، ثم هي لا تضر أحداً، فمن حيث كونها دائرة محدودة في الإسلام، فهي مقتصرة على أساسيات العقيدة من توحيد الله، والإيمان بالنبوة المحمدية، والإيمان بالبعث، والإيمان بالكتب السماوية، والرسالات السابقة، بالإضافة إلى الإيمان بالملائكة، وما سوى ذلك من أحكام الشريعة، فلا تضم هذه الدائرة المحدودة إلا ما ثبت وجوبه بنص كوجوب العبادات والميراث وحرمة الخمر والزنا؛ وكل ما ثبت بنص من القرآن والسنة مما علم من الدين بالضرورة .. ومن حيث كونها لا تضر أحداً فهي رغم نفعها العام لا تضر أحداً من غير المؤمنين بها، فالمؤمن بالعقائد الإسلامية والعبادات وما علم من الدين بالضرورة ملتزم بعدم فرضها بالإكراه على غيره، وهي أمور شخصية تمثل علاقة الإنسان بربه، وهي علاقة خاصة تلزم المؤمن بها ولا يتضرر بها غيره، حيث يقول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (سورة الكافرون: 6) وحيث يأمر الله عز وجل المؤمن الملتزم بهذه الخصوصيات الإسلامية أن يقتصر في سلوكه على بيان هذه العقائد دون أن يترتب عليها ضرر لغيره أو إكراه له، يقول تعالى: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (سورة آل عمران: 20) ويقول تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (سورة الشورى: 15) فكلنا مربوبون لله وهو الذي يجمع بيننا، وقد قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة العنكبوت: 46) ويلاحظ في النهاية أن كل ذلك يتم في الإسلام ببساطة ووضوح، فالعقائد الإسلامية التي تنبع من التوحيد والنبوة والبعث كلها بسيطة بلا تعقيد، واضحة بلا خفاء أو غموض، والأمر بعدم فرضها على أحد واضح وحاسم، كما أن أمر المسلم بالتعاون مع غيره من أهل الأديان الأخرى فيما ينفع الناس ولا يهدر مقوماته الذاتية لا يحتاج إلى مجادلة مما جعل الإسلام سريع الانتشار والإقناع، سريع الاحتواء للناس واحتضانهم، حتى وإن احتفظ من احتفظ منهم بدينه، لأنه يحترم الإرادة الإنسانية وحرية كل إنسان في تحمل مسئولية قراره في اختيار الدين، مما جعل الكل يقبلون عليه بإيمان خالص لا تشوبه شائبة. ثالثاً: أما عن دور المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى بلاد غير إسلامية، من حيث: فهمهم للإسلام. ـ سلوكهم في التعبير عن الإسلام في مهاجرهم، وتقديمهم للإسلام في هذه المهاجر، فمن المهم أن نركز على ما لاحظناه من أن دور هؤلاء المهاجرين الأوائل بدأ مبكراً في تاريخ الإسلام. ويمكن القول بأن بوادر هذا الدور بدأت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على يد الرسل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ورؤساء الدول في عهده، بحيث يعد هؤلاء ودورهم أول احتكاك للإسلام بالعالم الخارجي، كما يعدون الطلائع الأولى للجاليات الإسلامية في العالم .. كما تعد الهجرة إلى الحبشة أول اتصال منظم للإسلام بالعالم، ويعد ـ تحديداً ـ أول وجود لجالية إسلامية في عالم مختلف .. كذلك يعد دور هذه الجالية المتقدمة نموذجاً يحتذي لكل الجاليات الإسلامية في العالم .. وبقراءة متأنية لسلوك هذه الجالية في الحبشة ندرك: ـ كيف واجهت هذه الجالية الأولى المؤامرات عليها وعلى الإسلام من قبل دهاة قريش وعلى رأسهم عمرو بن العاص حينذاك!! ـ وكيف كان فهمها للإسلام والعلاقة بينه وبين الأديان الأخرى؟ ـ كيف ركزت على العناصر المهمة الدائمة في القيم الإسلامية؟ ـ كيف كان أسلوبها في الحوار بين الإسلام والعالم؟ ـ كيف كانت محافظتها وثباتها على خصائصها الذاتية؟ كيف كان أثرها ومدى نجاحها في تهيئة جو أفضل حولها، وتعريف الإسلام تعريفاً حقيقياً مما يعطي مثالاً لسلوك واع لجالية إسلامية تتيح فرصة لتعريف الناس حولها بحقائق الإسلام، لتترك بعد ذلك الفرصة كاملة لاختيار الإنسان للدين الذي يؤمن به اختياراً حراً يؤدي إلى تعايش سلمي وحفاظ كامل على حرية الإنسان؟ وبين الموقف الذي كان أول تماس لهذه الجالية في المجتمع الجديد في الحبشة في اللقاء الذي كان بينهم وبين النجاشي، والكلمة التي ألقاها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هي المنهج الذي عاشت عليه هذه الجالية المبكرة خمسة عشر عاماً في مهجرها بالحبشة .. قال جعفر: أيها الملك: كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان .. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك .. فسأله النجاشي أن يتلو عليه شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، فقرأ عليه جعفر صدراً من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، ثم قال لهم: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، ثم التفت إلى رسولي قريش (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) قائلاً: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون، ثم إن رسولي قريش عادا فقالا للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون، فأرسل إليهم في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فأخذ النجاشي عوداً وخط به ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود .. ثم رد النجاشي هدايا قريش التي جاء بها عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وردهما خائبين، وقد قال بطارقة النجاشي عما سمعوه من جعفر رضي الله عنه: هذه كلمات من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح .. ومن دراسة هذا الموقف ندرك أن جعفراً رضي الله عنه نجح كل النجاح في فهمه للإسلام وتعبيره عنه تعبيراً صادقاً، وفي الوقت نفسه كان تعبيراً ملائماً للموقف دون أن يخرج عن ثوابته وخصوصياته .. ففي الوقت الذي دخل فيه مجلس النجاشي أبي جعفر رضي الله عنه أن يسجد للنجاشي كما هو المعتاد وكما كان المفروض على كل داخل إليه قائلاً لمن سأله من حاشية النجاشي: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل لأن العبادة يجب في الإسلام أن تتجه لله وحده، فلا يجوز بحال أن يتنازل المسلم عن هذه الخصوصية وأشباهها مما يتعلق بالعقائد والعبادات والأحكام الثابتة بالنصوص القطعية .. ثم رأيناه يبدأ بتقرير استخدمه مدخلاً عبقرياً إلى قلب النجاشي وعقله بتقرير وحدة أصول للدين في كل دين، فالإسلام يشترك مع الأديان السماوية في هذه الأصول فالدين في حقيقته واحد كما قال صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وحسنها إلا موضع لبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (الدر المنثور 5/204) ثم أكد بعد هذا المدخل إيمانه بوصفه مسلماً بعيسى عليه السلام وتسليمه بكل العقائد التي جاءت من وحدانية الله، وقرأ عليه من القرآن ما يفيد تقديس المسلم بأمر من القرآن لمكانة عيسى وأمه البتول الطاهرة، وأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، فهو إذن يبني ولا يهدم، يلتقي مع مشترك عقائدي ليضيف إليه، فالأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" والله تعالى يقول: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .. } (سورة آل عمران: 2) وكل ما في الأمر أن الإسلام يدعو أهل هذه الأديان إلى تطبيق الحق الذي جاء في هذه الأديان، يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (سورة المائدة: 68) كما يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } (سورة المائدة: 66) ـ ثم نلاحظ بعد ذلك أن جعفراً رضي الله عنه ركز في كلمته على العناصر الأخلاقية الدائمة الثابتة في الإسلام بعد تركيزه على المفاسد الاجتماعية والدينية التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي من غياب الدين الصحيح الذي يقوم على الوحدانية، وشيوع الزنا، وأكل الميتة، وسيادة منطق القوة، وعدم الاعتداد بالضيف، وقطع الأرحام، والتفتت الأسرى، وهي العيوب الدائمة في كل حضارة تستبعد العامل الديني أو يشوه لديها الدين .. ولذلك قدم بديلاً لهذه السلبيات قيام الإسلام على توحيد الله وعبادته سبحانه وحده، والبعد عن الفواحش، والتزام الصدق والأمانة، والترابط الأسري، وهذه أسس دائمة وأعمدة أساسية لكل حضارة حقيقية في أي عصر. ـ كما نلاحظ أن جعفراً رضي الله عنه استخدم أسلوباً من أساليب الحوار الرقيق الرفيق، فنسب كل هذه المفاسد إلى مجتمعه الجاهلي السابق ولم يعب ما عليه النجاشي وأهل الحبشة من دين، ولكنه ركز على نقاط الاشتراك بين الدين المسيحي والدين الإسلامي من تعظيم شأن عيسى عليه السلام ومريم البتول الطاهرة حين طلب إليه النجاشي أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فاختار الآيات التي تتحدث عن مريم البتول وولدها المسيح عليه السلام مما يتفق مع ما جاء في الإنجيل، مما جعل كلامه ينشئ جسراً من الاتصال بينه وبين النجاشي وحاشيته، وجعله يقول: إن هذا الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به عيسى عليه السلام ينبعان من مشكاة واحدة، وجعل البطارقة يقولون: "هذه كلمات من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح" .. استطاع جعفر بهذه الكلمات وهذا الحوار أن يضيق الفجوة بين الإسلام والمسيحية إلى درجة تصورها النجاشي نفسه وصورها بأنها لا تزيد على مقدار خط رفيع خطه بعود على الأرض قائلاً: "ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط". ـ ثم لننظر إلى المحاولة الرقيقة التي استطاع بها جعفر رضي الله عنه أن يستميل قلب النجاشي حين تودد إليه بأنه وأصحابه لما ظلمهم قومهم وأهلوهم خرجوا إلى بلاده واختاروه على من سواه من الملوك والأباطرة الكثيرين، قال: ".. فعدا علينا قومنا وفتنونا على ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلاد واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك". لهذا الموقف بكل تفاصيله لم نستغرب ما حدث من تأثر النجاشي، وامتلاء قلبه بالإسلام إلى درجة تقول بعض الروايات إنه كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يعبر فيه عن إسلامه ويطمئنه على الجالية: جعفر وأصحابه، وأنه قربهم إليه، قال: بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر سلام عليك يا نبي الله، ورحمة الله وبركاته. من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام. أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفرقاً (قمع نواة)، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإن أشهد أن ما تقول حق. والسلام عليك يا رسول الله. هكذا كان نجاح هذه الجالية، وإلى هذا الحد الذي انتهى بهذا الكتاب، وبتأمين سلامة الجالية وإعطائها حقها في ممارسة شعائرها، وسائر حقوقها الكاملة في عدالة منقطعة النظير استمرت خمسة عشر عاماً لم تنته إلا برغبتهم هم في العودة إلى المدينة بعد ما بلغهم إسلام أهل مكة والانتصارات المتوالية للإسلام، وبطبيعة الحال حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم لقربهم منه، فعادوا يوم انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في فتح خيبر، وقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودتهم قائلاً: بأيهما أسر؟ بعودة جعفر أو فتح خيبر؟ ولا يفوت الباحث في هذا المقام أن يلتفت إلى أن اختيار جعفر متحدثاً عن هذه الجماعة كان سبباً من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نجاح هذه المجموعة، فقد أوردت كتب التاريخ أنهم عندما اجتمعوا قبل الدخول إلى النجاشي، قال لهم جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه .. ولعل الذي جعل جعفراً يعرض أن يستأذن قومه ليتقدم عليهم خطيباً لهم أنه كان رضي الله عنه يحس بالمعنى الذي يجب أن يركز عليه في خطبته أمام النجاشي وهو تواصل الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأديان السماوية في جوهرها وأنه استمرار لها، وإن الالتفات إلى هذه الحقيقة يرسي مقدماً أساساً مقبولاً للحوار عند الأخر واطمئناناً إلى الإسلام، وأنه ما جاء لينتقض بل ليصحح ويكمل. لذا كان شعاره صلى الله عليه وسلم: "ما جئت لأنقض الناموس، بل لأكمل"، ولعل جعفراً استوعب ذلك من القرآن الكريم في حواره مع أهل الكتاب، ولاحظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمه منه. ويمكن أن نرى تأكيداً لهذا من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوار سواء في حواره صلى الله عليه وسلم مع الوفود، وفي الرسائل التي أرسلها عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والرؤساء في عصره. فمع الوفود تحكي كتب التاريخ أن جعفراً قدم إلى مكة ومعه بضعة وثلاثون وقيل أكثر من أربعين رجلاً من الحبشة (يبدو ذلك قبل عودته النهائية بعد فتح خيبر) ليروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعوا منه، فلما رأوا صفاته وأحواله وسمعوا ما تلا عليهم من القرآن آمنوا كلهم، فلما علم أبو جهل بهم جاءهم قائلا: "ما رأينا ركباً أحمق منكم. أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فما قال؟! فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً. فنزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ "52" وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ "53" أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ "54" وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } (سورة القصص: 52 ـ 55) يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في التعليق على هذا الموقف: "ما وازن، فإن إيمانهم به عليه الصلاة والسلام لم يكن عملية انتقال من دين إلى دين بسبب تفضيل أحدهما على الآخر، وإنما كان استمراراً لحقيقة الإيمان بعيسى عليه السلام وما أنزل إليه، وهذا هو معنى قولهم فيما تحكيه عنهم الآية الشريفة: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } (سورة القصص: 53) أي إنا كنا من قبله مسلمين ومؤمنين بهذا الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم من قبل بعثته؛ لأنه مما يدعو الإنجيل إلى الإيمان به" (فقه السيرة ط8 ص131). بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان قد أكد مبدأ الأخوة الإنسانية بين الناس جميعاً طبقاً للقرآن كما أسلفنا فقد أكد مراراً على وحدة الدين وأخوة الأنبياء طبقاً للقرآن أيضاً: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (سورة آل عمران: 19) يقول الشيخ محمد الصادق عرجون: وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ العملي في أول عمل تعبدي بدأ به التشريع الإسلامي في المدينة المنورة بعد هجرته وأصحابه إليها، وفيها كان وضع أساس النظام الجماعي في التشريع لأمة الإسلام، أي للناس أجمعين، روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فسأل: ما هذا؟ فقالوا: يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم فصوموا" (أحمد 1/340) وفي حديث آخر يرويه البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء. فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح. هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم" (الشيخ عرجون .. الموسوعة في سماحة الإسلام، ج1 ص238 ط1) كما روي البخاري أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عيسى بن مريم عليه السلام: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم مواحد" (أحمد 2/406) ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأخوة الدينية العامة بعد الأخوة الإنسانية العامة يطبق القرآن الكريم تطبيقاً نبوياً أميناً، حيث يقول تعالى آمراً نبيه: {قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "84" وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة آل عمران: 84، 85) وبنفس النص الذي أمر به الله نبيه أمر المؤمنين في إطار هذه الوحدة الدينية حيث قال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة البقرة: 136) وكما قدمنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة يحدد هذه العلاقة الدينية في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء" (الدر المنثور 5/204). فهو عليه الصلاة والسلام يصدق ويحسن ويجمل ويتمم ما سبقه من أديان ورسالات ولا ينقض أو ينكر رسالة منها أو رسولاً، كما قال سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (سورة البقرة: 285) ومن المعلوم أن البشارات المتتالية في الأديان والكتب السماوية التي نزل بها كل كتاب منها رسالة تبشر بالرسول التالي، والمنصفون يرون ذلك في كتبهم، لكن غير المنصفين يكتمون ذلك ويفرقون بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، لكن المؤمنين الحقيقيين ملتزمون بجميع الأنبياء والرسل ورسالاتهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } (سورة النساء: 150) ونفس هذا المعنى الذي عنى الرسول صلى الله عليه وسلم بتأكيده مع الوفود، وغرسه في يقين المؤمنين وعقيدتهم هو الذي أبرزه في رسائله إلى الملوك والرؤساء في عصره. ففي رسالته صلى الله عليه وسلم إلى "ضغاطر" أسقف الروم: "إلى ضغاطر أسقف الروم: سلام على من آمن .. أما على أثر ذلك: ـ فإن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الزكية، وإني أومن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. والسلام على من اتبع الهدى". وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن ضغاطر هذا آمن بالنبي فقتله قومه شهيداً. كذلك كان رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يركزون على هذا المعنى نفسه: وحدة الدين في أصوله، ولنأخذ منهم رضوان الله عليهم رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وهو حاطب بن أبي بلتعة: فحينما قال المقوقس له: إن لنا ديناً لا ندعه إلا لما هو خير منه. قال حاطب: ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام .. ثم قال: "ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما دعاؤنا إلى القرآن إلا كدعاء أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به". كانت نتيجة هذه المقابلة رد المقوقس يقول في كتابه الذي بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ".. فكشفنا يا محمد في علمنا عن خبرك، فوجدناك أقرب داع دعا إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق، ولولا أني ملكت ملكاً عظيماً لكنت أول من سار إليك لعلمي أنك خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته إلى يوم الدين. يقول الشيخ محمد الصادق عرجون: "انظر إلى الحج النيرة يوردها هذا السفير العليم بروح الإسلام وسمو أهدافه في تجميع الإنسانية تحت راية دين الله الواحد، حتى تعود كما خلقها الله أسرة واحدة يجمعها الإخاء وتوحد بينهم المحبة، فيقول في نهاية الحديث مع المقوقس: "ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به". على هذا النهج الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتزم به رسله الأوائل خرج المسلمون من الجزيرة العربية وانتشروا في البلاد: ـ يركزون على وحدة الدين في أصوله. ـ ويبرزون القيم الإسلامية التي تتلاقى مع القيم الإنسانية العامة التي لا يختلف عليها الناس، وهي دعائم الأخلاق في الإسلام يجد الإنسان تجاوباً معها في فطرته الخالصة، كما يقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (سورة الروم: 30) ففي المجتمعات التي تدين بالديانات السماوية كان طريق الجاليات الإسلامية الالتقاء مع باقي هذه الديانات من مشتركات: ـ أصل الإيمان بوجود الله. ـ ما في كتب هذه الديانات من نقاط لقاء بررت منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم التعامل مع أهل الكتاب معاملة خاصة تبيح زواج نسائهم وأكل طعامهم. ـ ما في هذه الديانات من أخلاق تشترك مع أخلاق الإسلام من المحبة والرحمة والعدالة والتسامح وغيرها مما ينبع من نفس معين الإسلام. وفي المجتمعات التي تدين بأديان أخرى كان منهج الجاليات الإسلامية الالتقاء مع أهلها في أصول القيم العامة. وتطبيق كل ذلك في السلوك العملي اتباعاً لقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "8" إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة الممتحنة: 8، 9) فكانوا مثار إعجاب هذه المجتمعات، وكانوا منارات لسماحة الإسلام ورحابة آفاقه، فثبتوا أقدامهم في هذه المجتمعات في شتى أنحاء الأرض، وبعدالة سلوكهم حكموا هذه المجتمعات. فالهند كانت دولة يحكمها المسلمون برضا أهلها وإعجابهم بعدالة الإسلام ورحمة نظامه إلى سنة 1857م، ولم يتغير هذا النظام الإسلامي إلا بوصول الاستعمار البريطاني وزرع الأحقاد والنعرات العصبية والعداوات الدينية. لقد تحولت هذه المجتمعات إلى الإسلام بفضل هؤلاء الدعاة وسلوكهم وأعطاهم أهلها مقاليد الحكم عن طواعية ورضا وحرية كاملة في الاختيار. ومازالت بعض الأصول العرقية العربية المهاجرة من الجزيرة العربية تحكم حتى الآن في بعض الدول في جنوب شرق آسيا، أكثرها عائلة بلفقيه في بروناي دار السلام، ويتولى أبناء هذه الأصول العربية كثيراً من المسئوليات المتقدمة في هذه المجتمعات. ولقد كانت هذه الجاليات الإسلامية هي أسبق العناصر السكانية في تلك المجتمعات إلى الدفاع عن هذه البلاد التي أصبحت مواطنها. فالمسلمون هم الذين تحملوا العبء الأكبر في تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، انظر كتاب (كفاح المسلمين في تحرير الهند). د. عبد المنعم النمر. والعجيب الذي يذكر في تحول الزمان وتغيره أن الجالية الإسلامية في الهند منذ وطئت أقدام المسلمين هناك كانت محل احترام أهل الهند بمختلف أديانهم على عكس ما يبدو تماماً في هذا العصر من تكرار المذابح والاضطهاد الطائفي. وقد نقل الدكتور عبد المنعم النمر عن أحد مؤرخي الهندي القدامى وهو الشيخ زين الدين بن عبد العزيز المعبري (ق10 ـ هـ) صاحب كتاب "تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين" ـ وهو يتحدث عن ازدهار الإسلام وانتشاره في هذه البلاد برغم أن حكامها لم يكونوا من المسلمين، وذلك بفضل نشاط المسلمين ومركزهم المالي والتجاري في البلاد، فكانوا يبنون المساجد ويقيمون الجمع والأعياد وينفذون فيما بينهم أحكام شريعتهم. وينظر الهندوس المحليون إليهم نظرة إكبار وتقدير، وإذا اعتنق هندوسي الإسلام ولو كان من الطبقة السفلي فإنه ينال نفس الاحترام والتقدير مما كان سبباً لدخول كثير من المضطهدين في الإسلام. (د. عبد المنعم النمر. تاريخ الإسلام في الهند ص65. دار العهد الجديد للطباعة، القاهرة 1378 هـ 1959م). كما نقل الدكتور النمر عن المؤرخ إنيس "Innes" قوله: "والظاهر أن المسلمين في هذا العهد وصلوا إلى نفوذ كبير، فقد كانوا يلقبون بكلمة "مابلا" وهو لقب احترام، وخص المسلمون بمظاهر الاحترام الأخرى، وقد كان من عطف "زامورين" أحد الملوك وحمايته ومساعدته أن كثر عدد التجار العرب في مملكته وهم ساعدوه مساعدات عظيمة، ليس في توفير ثروته وتعمير بلاده فحسب بل في حروبه كذلك" (المصدر السابق، ص67). وهنا سؤال يفرضه البحث عند وصولنا إلى هذه النقطة: تغير الزمان وتبدل الواقع بالجالية الإسلامية بالهند، لعل بحث الأسباب في هذا التغير يكون مدخلاً لبحث الأسباب التي تجعل الجاليات الإسلامية المنتشرة في كل بلاد العالم محدودة النشاط ضئيلة التأثير في مجتمعاتها. وربما يبدو في البداية على رأس هذه الأسباب، الوقيعة التي صنعها الاستعمار بين هذه الجالية في الهند وغيرها من الجاليات الإسلامية في مجتمعاتها. وهذا التفسير أسهل التفاسير، لكنه كما يتضح من هذا البحث ليس أصح التفاسير ولا أكثرها تعبيراً عن الواقع. ونحن لا ننكر دور الوقيعة التي قام بها الاستعمار بكل صنوفه بين المسلمين وغيرهم في هذه البلاد، كما لا يسعنا إنكار دور الشكوك والريب التي تحيط بالمسلمين في كثير من البلاد، وهي شكوك وريب حاولت جحافل المتعصبين من المستشرقين عبر مئات السنين أن يشوهوا بها صورة الإسلام ورسوله والمؤمنين به، كما لا ننكر حذر كثير من الشعوب ومخاوفها من الإسلام الممتد بطبيعته والقادر دوما على الانتشار، وخلط هذه الشعوب بين قدرة الإسلام على الإقناع والسيطرة السليمة على العقول بهذا الإقناع وبين من يخافون من سيطرة سياسية وانتشار اقتصادي، أو فتح بالمعنى غير المفهوم لدى هذه الشعوب للفتوحات الإسلامية، هذا المعنى المغلوط الذي يرتبط بالاستيلاء العسكري على البلاد، واستغلال الثروات وقهر الشعوب. ومع أننا لا ننكر هذه الأسباب إلا أننا لا نراها أسباباً حقيقية لضآلة تأثير الجاليات الإسلامية في العالم. فكل هذه الأسباب كان يمكن علاجها إذا قام دور الجاليات الإسلامية على نفس الأسس التي قام عليها منهج الجاليات الأولى التي فهمت الإسلام فهماً صحيحاً، وعبرت عنه تعبيراً أغرى الشعوب بالإعجاب بهذا الدين. وأول ما نرى من ضعف الفهم للإسلام وغلط التعبير عنه وتقاصر السلوك والتطبيق لقيمه لدى كثير من الجاليات أن هذه الجاليات نقلت واقعها في بلادها الأصلية، وهو واقع لا يعبر تعبيراً حقيقياً عما في الإسلام من تقدم ورقي، كما نقلت خلافاتها الدينية والفكية والسياسية التي عوقت مجتمعاتها الأصلية إلى مهاجرها دون أن تجمعها قيم الإسلام العامة وروابطه الأساسية بين كل معتنقيه. لقد أظهرت الجاليات الإسلامية في مهاجرها صوراً شتى للإسلام وسلوكيات مختلفة في العقائد والعبادات، والعادات والمواقف من سنة وشيعة وغيرهما، حتى اختلفت الفرق في داخلها إلى مذاهب شتى يتعصب أهلها تعصباً شديداً يتمسك بما يراه وينفي الآخر .. تماماً كما يجري في داخل العالم الإسلامي، مما أوجد بلبلة شديدة واضطراباً عظيماً حال دون معرفة العالم معرفة حقيقية بالإسلام الذي حملته الجاليات الأولى إلى آفاق العالم. ولذا بات الدور الرئيسي على هذه الجاليات أن تعود إلى منهج سالفاتها من الجاليات التي سبقتها إلى بلاد العالم، واقتداء بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قدمناه آنفاً: 1. أن تركز على العقائد الأساسية التي تمثل أصول الدين في الإسلام تلك التي لا يختلف عليها المسلمون مهما تعددت مذاهبهم. 2. أن تؤكد في تطبيقاتها العملية على ما ثبت من أحكام شرعية بالنصوص القطعية مما علم من الدين بالضرورة. 3. أن تعمل بجد وإخلاص على أن تلتقي في مواضع الخلاف في الأحكام الشرعية الفرعية العملية على كلمة سواء، فإن تعذر الاجتماع على كلمة سواء فعليها أن تتخذ من هذه التعددية نقطة إيجابية يقدم فيها الإسلام خيارات وبدائل في مجال التطبيقات العملية، ولا تتخذ منها نقاط خلاف ينعكس سلباً على صورة الإسلام. 4. أن تتمسك بالقيم الأخلاقية في الإسلام من التسامح والرحمة والإخاء والتعاون، فقد ثبت أن اختلاف الدين لا يبرر التقاطع طالما كان المختلفون لا يقاتلون المسلمين في دينهم ولا يخرجونهم من ديارهم. 5. أن يندمجوا في مجتمعاتهم ويشاركوا في البناء والتنمية لهذه المجتمعات، مع المحافظة على خصائصهم الذاتية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. 6. أن تجري محاوراتهم مع أهل الكتاب على التركيز على ما اختطه صلى الله عليه وسلم من التذكير بنقاط الاشتراك والتواصل مع الأديان السماوية، وإعلان أن المسلم يصدق بكافة الرسل ويعظم ما جاءوا به ويسلم بما احتوته الكتب السماوية جميعاً من حق. 7. أن تقوم محاوراتهم مع أهل الأديان الأخرى كافة على العمل بالقيم الإنسانية العامة التي تتجاوب مع الفطرة الإنسانية النقية، فهذه نقطة اشتراك للإنسانية جميعاً على اختلاف أديانها، وهي في الوقت نفسه تحتل مكان الصدارة والاهتمام في الإسلام؛ لأن الإسلام هو مستودع هذه القيم الإنسانية، وهو ينبوع كل خير للإنسان والعالم، وهو الذي ينفي عن الإنسانية كل ضرر وشر "لا ضرر ولا ضرار" فهو يدعو إلى السلام والرحمة، وينبذ التقاطع والتدابر. 8. أن تعي هذه الجاليات أنها لن تمحو اختلاف الأديان؛ لأنه سنة كونية: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (سورة هود: 118، 119) وعلى كل مسلم أن يعرف رسالته ويترك للآخرين حرية الاختيار: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ } (سورة الشورى: 48) {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } (سورة الرعد: 40) {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (سورة الشورى: 15) {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (سورة الكافرون: 6) وقد مضى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سنة ثابتة في معاملة غير المسلمين "أمرنا بتركهم وما يدينون" "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". 9. أن تكون لغة الخطاب لغة التصالحية مع الآخر، وهي لغة القرآن كما أسلفنا مع عدم التفريط بطبيعة الحال أو التنزل في الخطاب. 10. أن تعمل هذه الجاليات مع مراكزها العلمية والمؤسسات الإسلامية في الأمة الإسلامية على تنمية التفكير، وإثراء الحياة الفقهية بالاجتهاد المقاصدي الذي يضع نصب عينيه وأمام عقله مقاصد الإسلام العليا، فقد آن لهذا الاجتهاد المقاقصدي أن يؤدي المجتهدون فيه دورهم الذي تعطل تقريباً منذ عهود أسلافنا الصالحين الذين كان آخرهم الإمام الشاطبي رحمه الله. والله المستعان،،
عدد المشاهدات: 10337
تاريخ المقال: Friday, October 24, 2003
التعليقات على دور الأقليات الإسلامية في العالم (1)

dsadadsaSunday, November 9, 2008

جمييييييييييييييييل

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
5243

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

سجل في النشرة الاخبارية في نور الله
أخبار المسلمين الأكثر قراءة
خلال 30 أيام
30 يوم
7 أيام