|

ملف وقضيةالإسلام والمسلمون في العالم › الإسلام دين الرفق والرحمة لا دين العنف والنقمة

منهج الدعوة يقوم على الرفق إن منهج الدعوة الإسلامية: يقوم على الرفق واللين، والرقة والرحمة، ولا يقوم على العنف والشدة، والغلظة والنقمة. ولقد رسم القرآن منهج الدعوة، بقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (سورة النحل، الآية: 125) والدعوة بالحكمة تعني: الخطاب الذي يقنع العقول بالحجة والبرهان. والموعظة الحسنة تعني: الخطاب الذي يستميل العواطف، ويؤثر في القلوب رغباً ورهباً. والجدال بالتي هي أحسن، يعني: الحوار مع المخالفين بأحسن الطرق، وأرق الأساليب التي تقربهم ولا تبعدهم. وقد رأينا القرآن الكريم وهو يعرض لنا قصص الرسل عليهم السلام وكيف خاطبوا أقوامهم بالحسنى، كما في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ "105" إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ "106" إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ "107" فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "108" وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } (سورة الشعراء، الآيات: 105 ـ 109) وفي سورة نوح يقول لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ "2" أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ "3" يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (سورة نوح 2 ـ 4) فانظر كيف بدأ خطابهم بقوله: (يا قوم) يذكرهم: أنه واحد منهم، وليس غريباً عنهم. وانظر خطاب إبراهيم لقومه وكيف تدرج معهم حين رأى في الليل كوكبا، قال هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الأفلين، ثم القمر، ثم الشمس، حتى قال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ "76" فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ "77" فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ "78" إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (سورة الأنعام 76 ـ 79) وانظر خطابه لأبيه وترفقه به: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا "42" يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا "43" يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا "44" يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } (سورة مريم 42 ـ 45) إلى أن رد أبوه بقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا "46" قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } (سورة مريم 46، 47) وانظر إلى موسى وأخيه هارون حين بعثهما الله إلى فرعون، وأوصاهما بتليين القول له: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى "43" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (سورة طه 43، 44) ولذا وجدنا موسى عليه السلام حين ذهب إلى فرعون، قال له: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى "18" وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (سورة النازعات 18، 19) بهذه الصيغة المأنوسة الرقيقة. ودخل رجل على المأمون يعظه، فقال له: اتق الله أيها الظالم الفاجر، فقال له المأمون وكان على علم وفقه: يا هذا!! إن الله بعث من هو خير منك، إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق. بعث موسى وهارون وهما خير منك، إلى فرعون، وهو شر مني، وقال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى "43" فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (سورة طه 43، 44) الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو إلى الرفق وينكر العنف: ومن قرأ سنة الرسول الكريم القولية ممثلة في أحاديثه عليه الصلاة والسلام أو قرأ سنته العملية ممثلة في سيرته صلى الله عليه وسلم يجد أسلوب الرفق واللين واللطف في الدعوة والمعاملة شديدة الوضوح والعمق في أخلاقه عليه الصلاة والسلام. وحسبنا أن ننقل من كتاب مثل (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري فيما أورده من أحاديث صحاح وحسان، في الترغيب في الرفق والحلم. وأولها: حديث عائشة: "إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله". وينبغي لنا أن نذكر هنا سبب ورود هذا الحديث، كما رأته وروته أم المؤمنين عائشة، فهي شاهد عيان، وكما رواه البخاري في صحيحه، قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا (أي للنبي): السام عليك. فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله. قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت: وعليكم" فهؤلاء اليهود من سوء أدبهم وسوء طويتهم لووا ألسنتهم، وحرفوا الكلم، فبدل أن يقولوا: السلام عليك، قالوا: السام ـ أي الموت والهلاك ـ ولكن الرسول الكريم من حسن أدبه، وعظمة خلقه، لم يرد أن يجعل من ذلك معركة، بل رد بهذه الكلمة النبيلة قائلاً: "وعليكم". أي أن الموت مكتوب على كل البشر، علينا وعليكم. ثم علم عائشة هذا الأدب الرفيع أدب الرفق في التعامل، حين قال لها: "يا عائشة! إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله" ونسوق بقية الأحاديث ـ التي انتقيناها هنا ـ من كتابنا (المنتقي من الترغيب والترهيب): منها: ما رواه مسلم عن عائشة: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". رواه مسلم عن عائشة برقم 2593 وعنها أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" رواه مسلم برقم 2594 وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير" رواه مسلم برقم 2592 والطبراني ورواته ثقات، وأبو داود مختصراً. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى حظه من الرفق؛ فقد أعطى حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق؛ فقد حرم حظه من الخير" رواه الترمذي برقم 2014 وقال حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، وأريقوا على بوله سجلاً من ماء ـ أو ذنوباً من ماء ـ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" رواه البخاري برقم 220، والسجل بفتح السين المهملة، وسكون الجيم: هو الدلو الممتلئة ماء. والذنوب بفتح الذال المعجمة مثل السجل، وقيل: هي الدلو مطلقاً سواء كان فيها ماء أو لم يكن، وقيل: دون الملأي. وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1131 . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى". متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1502 . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحب إلى الله من الحمد" رواه أبو يعلي، وقال الهيثمي: رواته رواة الصحيح. انظر المجمع 8/19. ونسبه في "الجامع الصغير" إلى البيهقي في "الشعب"، وسنده عنده ضعيف كما في "الفيض". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" رواه مسلم برقم 17. وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء". متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 629. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"! متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان برقم 1107. الإسلام دين الرحمة: وكما دعا الإسلام إلى الرفق، وحذر من العنف، في الدعوة والتعامل نجده كذلك دعا إلى الرحمة، واعتبرها جوهر أخلاقه، ونهى عن القسوة وذمها، وذم من اتصف بها أشد الذم. فقد قص القرآن علينا قصة البقرة، التي حدثت في بني إسرائيل، ثم عقب عليها بتوجيه الخطاب لهم بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (سورة البقرة: 74) بل ذكر القرآن أن قسوة القلوب عند بني إسرائيل، كانت عقوبة إلهية لهم على عصيانهم، ونقضهم مواثيقهم وعهودهم مع الله تعالى، كما قال سبحانه بعد أن ذكر ما أخذ عليهم من ميثاق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (سورة المائدة: 13) والتوراة نفسها تصفهم بأنهم الشعب الغليظ الرقبة. أما أمة الإسلام فإنها مأمورة بالرحمة، موصوفة بها، بل إن رسالتها نفسها قائمة على الرحمة، بل هي الرحمة ذاتها، كما جاء في القرآن الكريم، فقد خاطب الله رسوله بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (سورة الأنبياء: 107) فهو عليه السلام ليس رحمة لجنس العرب أو الشرقيين، أو حتى المسلمين وحدهم، بل هو رحمة للعالمين؛ لأن رسالته رسالة عالمية، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (سورة الأعراف: 158) ومادامت دعوته ورسالته للناس جميعاً فإن الرحمة المقترنة بها للناس جميعاً، وإن كان أكثر الناس انتفاعاً بهذه الرحمة هم الذين آمنوا به واتبعوه واهتدوا بهديه، فهم يعيشون في جو هذه الرحمة؛ إيماناً، وتعبداً وفكراً، وخلقاً وسلوكاً، وتعاملاً. ذلك أن أكثر الناس استفادة من علم الطبيب النطاسي وتجربته هو من يؤمن بطبه ويلجأ إليه، ويأخذ منه، ويعالج على يديه. وهذا هو سر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (سورة يونس: 57) {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } (سورة الإسراء: 82) وقال لرسوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (سورة النحل: 89) ولقد عبر محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه ودعوته بعبارة موجزة، فقال: "إنما أنا رحمة مهداة" رواه الحاكم 1/35 وصححه، ووافقته الذهبي. فهو رحمة مهداة من الله للعالمين عامة، وللمؤمنين خاصة، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (سورة التوبة: 128) وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة التوبة: 61) ولا أجد في تعاليم نبي من الأنبياء من الدعوة إلى الرحمة، والحث عليها، والترغيب في التخلق بها، ومعاملة الناس جميعاً، بل الحيوانات على أساسها ما أجد في تعاليم محمد عليه الصلاة والسلام. وأكتفي بأن انقل جملة أحاديث، من بعض ما انتقيته من كتاب الإمام المنذري في (الترغيب والترهيب) في فصل (الترغيب في الشفقة على خلق الله تعالى من الرعية والأولاد، والعبيد، وغيرهم، ورحمتهم، والرفق بهم والترهيب من ضد ذلك، ومن تعذيب العبد، والدابة، وغيرهما بغير سبب شرعي، وما جاء في النهي عن وسم الدواب في وجوهها) وقد سرد هنا جملة وافرة من الأحاديث، ننتقي منها ما يأتي: "عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان رقم 1498. وفي رواية لأحمد: "ومن لا يغفر لا يغفر له" وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. انظر: المجمع (10/193). وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لن تؤمنوا حتى تراحموا" قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة" رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انظر: المجمع 8/78. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه أبو داود برقم 4941 والترمذي برقم 1925 وقال: حسن صحيح. "وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القوم، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" رواه أحمد برقم 6541 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، ورواه البخاري في الأدب المفرد. والأقماع: جمع قمع بكسر القاف وفتح الميم وهو: الإناء الذي يوضع في رءوس الظروف لتملأ بالمائعات. شبه الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تمسك شيئاً مما يفرغ فيها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقي" رواه أبو داود برقم 4942 والترمذي برقم 1924 وقال: حسن. ورواه ابن حبان برقم 2065 وقال الشيخ شعيب: إسناده حسن. وعنه رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً قط، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يرحم لا يُرحم" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1497. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1496. وعن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: "إن رحمتها رحمك الله" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي 4/231. وقد تقدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أضجع شاة، وهو يحد شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك، قبل أن تضجعها؟!" رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" والحاكم واللفظ له وقال: صحيح على شرط البخاري. وقال المنذري: رجال الطبراني رجال الصحيح، ونحوه قال الهيثمي 4/33. وعن ابن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها؛ إلا يسأله الله عنها يوم القيامة" قيل: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: "حقها أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فترمي به" رواه النسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي 4/233 ورواه أحمد في المسند برقم 6551 وصححه الشيخ شاكر. وعن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك "قُدها إلى الموت قوداً جميلاً" رواه عبد الرازق موقوفاً في المصنف برقم 8605. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً أو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً ـ فيه الروح ـ غرضاً" متفق عليه؛ اللؤلؤ والمرجان برقم 1279. و"الغرض" بفتح الغين المعجمة والراء: هو ما ينصبه الرماة، يقصدون إصابته، من قرطاس وغيره. وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها". ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: "من حرق هذه؟" قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" رواه أبو داود في (كتاب الجهاد) برقم 2675 وهو من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه. وقد رجح البخاري وابن أبي حاتم سماعه منه. وصحح الترمذي حديثاً عنه. والرواية فيه "تفرش" بدل "تعرش" والتفريش مأخوذ من فرش الجناح وبسطه، والتعريش: أن يرتفع فوقهما ويظلل عليهما. "قرية نمل": هي موضع النمل مع النمل. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسر إلى حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً، أو حائش نخل، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن، وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فكست فقال: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه، وتدئبه" ذفراه: مخؤرة رأسه، وهو الموضع الذي يعرق من قفاه. تدئبه: تكده وتتعبه بالعمل المتواصل دون إعطائه حقه من الراحة. والحديث رواه أحمد من مسند عبد الله بن جعفر 1745 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وهو عند أبي داود برقم 2549. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض" وفي رواية: عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها ـ إذ هي حبستها ـ ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" فكيف بمن يسجن ألوف المؤمنين بغير جرم جنون؟! رواه البخاري برقم 3482 وغيره. ورواه احمد: من حديث جابر، فزاد في آخره: "فوجبت لها النار بذلك". وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: مر الرسول صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصق ظهره ببطنه، فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة" رواه أبو داود، وابن خزيمة في "صحيحه" إلا أنه قال: "قد لحق ظهره". ورقمه عند أبي داود 2458 ورواه أيضاً احمد 4/181، 180، وابن حبان برقم 545 قال الشيخ شعيب: إسناده صحيح، وصححه النووي في "الرياض". وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، فقال: "دنت مني النار حتى قلت: أي رب! وأنا معهم؟! فإذا امرأة حسبت أنه قال: تخدشها هرة قال: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً" رواه البخاري برقم 2364. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من شدة العطش، قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى، فسقى الكلب! فشكر الله له، فغفر له" قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر" رواه البخاري برقم 2466 ومسلم برقم 2244 وانظر اللؤلؤ والمرجان برقم 1447. وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: "اعلم أبا مسعود!" فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: "اعلم يا أبا مسعود أن الله عز وجل أقدر عليك منك على هذا الغلام" فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً" وفي رواية: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله تعالى، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار" رواه مسلم برقم 1659 وأبو داود برقم 5159 والترمذي برقم 1949 وقال: حسن صحيح. وعن زاذان وهو الكندي مولاهم، والكوفي قال: أتيت ابن عمر، وقد أعتق مملوكاً له، فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً، فقال: مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكاً له أو ضربه، فكفارته: أن يعتقه" رواه أبو داود واللفظ له، ورواه مسلم؛ ولفظه قال: "من ضرب غلاماً فه حداً لم يأته، أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه". ورقمه عند أبي داود 5168 وأخرجه مسلم برقم 1657. وكلام ابن عمر يعني: أنه أعتقه كفارة عن ضربه له. وعن عمار بن ياسر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضرب مملوكه ظلماً أقيد (أي اقتص) منه يوم القيامة"رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رواته ثقات. انظر المجمع 4/238. وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة: "من قذف مملوكه وهو برئ مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال" رواه البخاري برقم 6858 ومسلم برقم 1660. وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للملوك طعامه وشرابه وكسوته، ولا يكلف إلا ما يطيق، فإن كلفتموهم فأعينوهم، ولا تعذبوا عباد الله خلقاً أمثالكم" رواه ابن حبان برقم1205 وقال الهيثمي في الموارد: قلت: في الصحيح بعض أوله. وعن عمرو بن حريث رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما خففت على خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك" رواه ابن حبان برقم 4314 وقال الشيخ شعيب: إسناده صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ضرب سوطاً ظلماً اقتص منه يوم القيامة" رواه البزار، والطبراني، وقال الهيثمي: إسناده حسن. انظر المجمع 10/353. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وكان بيده سواك، فدعا وصيفة له ـ أو لها ـ حتى استبان الغضب في وجهه، وخرجت أم سلمة إلى الحجرات، فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة، فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك؟ فقالت: لا، والذي بعثك بالحق ما سمعتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه أحمد، وأبو يعلي، والطبراني، وقال الهيثمي: إسناده جيد. انظر المجمع 10/353. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه، فقال: "لعن الله الذي وسمه" رواه مسلم برقم 2117 وفي رواية له: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه. ورواه الطبراني بإسناد جيد مختصرا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من يسم في الوجه. في نسخة: "من يسم الوجه" والوسم: الكي. لقد حرص الإسلام على صيانة وجه الحمار، فكيف بالإنسان؟! وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مر حمار برسول الله صلى الله عليه وسلم قد كوي في وجهه، يفور منخراه من دم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من فعل هذا" ثم "نهى عن الكي في الوجه، والضرب في الوجه" رواه ابن حبان في "صحيحه" وهو في "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" برقم 2003. قال الشيخ شعيب: إسناده صحيح، والإحسان برقم 5626. والأحاديث في النهي عن الكي في الوجه كثيرة. وهذا الحشد الجم من الأحاديث النبوية الصحاح في فضل الرحمة والترغيب فيها، وشمولها للإنسان، ولاسيما الضعفاء من الخلق، وكذلك للحيوانات العجماوات التي تؤكل أو تركب، والتي لا تؤكل ولا تركب مثل الهر والكلب، ولا أحسب ديناً من الأديان يشتمل على هذه الوصايا المكررة والمؤكدة ترغيباً في الرحمة والشفقة على خلق الله وترهيباً من الشدة والقسوة على عباد الله. الرحمة في حالة الحرب: وأظهر ما تكون الرحمة التي أمر بها الإسلام في حالة الحرب التي كثيراً ما تحكمها عواطف الغضب على العدو، وتبرر عوامل الغلظة عليه، والانتقام منه، فيقتل من لا يستحق القتل، أو يقتل بطريقة لا تليق بالإنسان، فيها تعذيب له، أو تمثيل بجثته، أو إظهار التشفي منه. ومثل ذلك: قطع الأشجار المثمرة، وهدم المباني والمنشآت المدنية، وتحريق كل ما تناله يد الإنسان، وفقاً للنظرية التي يعبرون عنها بـ(سياسة الأرض المحروقة). وهذا ما سار عليه الغرب ـ للأسف ـ في عامة حروبه، ولاسيما في الحرب العالمية الثانية، التي قتل فيها عشرات الملايين، حتى استحلت أمريكا لنفسها ضرب مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية، حتى بعد استسلام اليابان! والغرب هو الذي اخترع أسلحة الدمار الشامل وامتلكها، ويطالب العالم اليوم بالتخلص منها، ليظل هو وحده الذي يمتلكها. وسر ذلك أن الحرب عنده كالسياسة والاقتصاد، منفصلة عن الدين والقيم والأخلاق. أما الإسلام فالحرب كالسياسة والاقتصاد لا تنفصل عن قيمه الدينية والأخلاقية لهذا تتجلى فيها آثار العدل والرحمة، في جوانب شتى. من ذلك: أنه لا يقتل في الحرب إلا من يقاتل. ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة في بعض الغزوات، فأنكر قتل النساء والصبيان. رواه البخاري عن ابن عمر في الجهاد 4/74 كما رواه مسلم في الجهاد، باب تحريم قتل النساء والصبيان، عن ابن مسعود وابن عمر برقم 1744. وفي موقف آخر؛ قال عن المرأة المقتولة: "ما كانت هذه لتقاتل"! رواه أبو داود في الجهاد عن رباح بن ربيع، رقم 2669 وابن ماجه برقم 2882 ونسبه المنذري للنسائي أيضاً. وكان من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرائه، وقادة سراياه: "لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" رواه أحمد 1/493 وأبو يعلي برقم 2549 والطبراني في "الكبير" 11/179 والبيهقي في "السنن" 13/385 عن ابن عباس رضي الله عنهما وحسن إسناده محققو المسند، حديث رقم 2728. فهو هنا ينهى عن الغلول ـ وهو الخيانة في الغنيمة ـ وعن الغدر ـ وهو نقض العهد ـ وعن التمثيل ـ وهو تشويه القتلى بقطع الأنوف أو الآذان، أو بقر البطون ـ ونحو ذلك. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدرك خالد بن الوليد في إحدى المعارك ليبلغه هذا التوجيه النبوي: "قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً" وهو جزء من الحديث الذي رواه أبو داود برقم 2669. والعسيف: هو الأجير والتابع. ولا غرو أن قال الرسول الكريم: "أعف الناس قتلة: أهل الإيمان" رواه أبو داود عن ابن مسعود في الجهاد، باب النهي عن المثلة، برقم 2666 وابن ماجه في الديات، رقم 2681 وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح. وكذلك كان خلفاؤه الراشدون من بعده، على نهجه في العفة والرحمة. وأوصى أبو بكر قائده "يزيد بن أبي سفيان" حين وجهه إلى الشام، فقال: لا تقتل صبياً، ولا امرأة، ولا هرماً. وعن عمر أن أوصى "سلمة بن قيس" فقال: لا تقتلوا امرأة، ولا صبياً، ولا شيخاً هرماً. (الهرم: الكبير الفاني). قال في المغني 13/178: رواهما (أي أثر أبي بكر وأثر عمر) سعيد في سننه. وروى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة: 190) قال: لا تقتلوا النساء، والصبيان، والشيخ الكبير. نهى أبو بكر عن قتل الرهبان في صوامعهم؛ لأنهم لا يقاتلون تديناً. وكذلك جاء عن عمر: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. البيهقي في سنن الكبرى 9/1 وسعيد بن منصور في سننه 2/239. وخلاصة هذا كله: أن الحرب في الإسلام لا يقصد بالقتل فيها إلا من قاتل المسلمين بالفعل، وحمل السلام في وجوههم. وعند قتل من يقاتل: لا يشوه ولا يمثل، ولا يحمل رأسه إلى مكان آخر، ليراه القائد الأعلى أو الخليفة، لأنه نوع من المثلة المنهي عنها. وقد حمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رأس أحد القواد في صرة، فلما كشف عنها رأى الرأس، وعرف أنه لأحد قوادهم، ولما سألهم عن ذلك، قالوا: إنهم يفعلون ذلك برءوس قادتنا! فقال: أستنان (أي اقتداء) بفارس والروم؟! والله! لا يحمل إلي رأس بعد اليوم! ومن التوجيهات القرآنية: أنه أمر المسلمين بعد (الإثخان) في الأعداء، أي إضعافهم في القتال أن يكفوا عن القتل ويكتفوا بالأسر، ثم خيرهم في الأسرى بين إطلاق سراحهم مناً عليهم بلا مقابل، أو فدائهم بمال أو أسرى، قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } (سورة محمد: 4) فهل عرف التاريخ أمة عندها مثل هذه التعاليم التي تغرس العفة والرحمة حتى في حالات الحروب التي يتعدى الناس فيها عادة الحدود! فقه جماعات العنف: وإذا كان هذا من موقف الإسلام في دعوته إلى الرفق واللين، وإلى الرحمة والرأفة، وذمه للعنف والقسوة، فلماذا ظهرت جماعات العنف في بلادنا الإسلامية؟ وما الأساس الشرعي الذي تستند إليه، ولاسيما أنها تنتسب إلى الإسلام؟ ونقول هنا: إن العنف الذي تمارسه بعض الجماعات التي تنسب للإسلام إنما هو إفراز لفلسفة معينة، تتبناها هذه الجماعات، وثمرة لفقه خاص له وجهته ومفاهيمه وأدلته التي تستند إليها هذه الفئة من الناس. ومن نظر إلى جماعات العنف القائمة اليوم في عالمنا العربي مثلاً وجد لها فلسفتها ووجهة نظرها، وفقهها الذي تدعيه لنفسها، وتسنده بالأدلة من القرآن والسنة، ومن أقوال بعض العلماء. صحيح أنها تعتمد على المتشابهات وتدع المحكمات، وتستند إلى الجزئيات وتهمل الكليات، وتتمسك بالظواهر وتغفل المقاصد، كما تغفل ما يعارض هذه الظواهر من نصوص وقواعد، وكثيراً ما تضع الأدلة في غير موضعها، وتخرجها عن سياقها وإطارها، ولكن على أي حال لها فقه مزعوم يبرر العنف، ويروج لدى بعض الأغرار من الشباب والسطحيين من الناس، الذين يقفون عند السطوح ولا يغوصون في الأعماق، أساسه فقه الخوارج قديماً، الذي كانوا يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، كما صحت بذلك الأحاديث. العنف الداخلي: بدأت هذه الجماعات بالعنف في داخل أوطانها أنفسها، أي العنف ضد الأنظمة الحاكمة. فعلى أي أساس بررت ذلك وأجازته من الوجه الشرعية، في نظرها على الأقل؟ مبررات جماعات العنف ومدى اعتبارها: إن فقه جماعات العنف يقوم على أن الحكومات المعاصرة حكومات كافرة؛ لأنها لم تحكم بما أنزل الله واستبدلت بشريعته المنزلة من الخالق القوانين التي وضعها المخلوق، وبهذا وجب الحكم عليهم بالكفر والردة، والخروج من الملة، ووجب قتالها حتى تدع السلطة لغيرها إذ كفرت كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان. ويؤكد فقه هذه الجماعات كفر هذه الأنظمة الحاكمة بأمر آخر، وهو: أنها توالي أعداء الله من الكفار الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دعاة الإسلام، الذين ينادون بتحكيم شرع الله تعالى، وتضطهدهم وتؤذيهم. والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (سورة المائدة: 51) والحكومات المعاصرة تعارض هذه التهم بدعاوى مختلفة، منها: أنها تعلن أن دينها الرسمي هو الإسلام، وأنهم ينشئون المساجد لإقامة الصلاة، ويعينون الأئمة والخطباء والمؤذنين، ويؤسسون المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، ويوظفون الوعاظ ومدرسي الدين في المدارس وغيرها، ويحتفلون برمضان وعيدي الفطر والأضحى، ويذيعون تلاوة القرآن في الإذاعات والتلفازات، إلى غير ذلك من المظاهر الدينية، التي تثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه. كما أن بعض دساتير هذه البلاد يعلن أن الشريعة مصدر أو المصدر الرئيسي للتقنين، وبعضها يعتذر بضعفه أمام قوى الضغط الغربي، وبعضها وبعضها .. فتوى ابن تيمية: كما تعتمد جماعات العنف على فتوى الإمام ابن تيمية ـ في قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام ـ كالصلاة أو الزكاة، أو الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخره ـ وهو ما اعتمد عليه كتاب (الفريضة الغائبة) لجماعة الجهاد، وجعل هذه الفتوى الأساس النظري لقيام جماعته، وتسويغ أعمالها كلها. ويستدلون هنا بقتال أبي بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لمانعي الزكاة. فكيف بمن يمتنعون عن تطبيق أكثر أحكام الشريعة، برغم مطالبة جماهير الناس بها، وخصوصاً العلماء والدعاة، بل هم أشد الناس خصومة لهؤلاء، وتضييقاً عليهم، ومعاداة لهم؟! ونسى هؤلاء أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة ولي الأمر، وليس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى! وتعتمد جماعات العنف أيضاً على أن هذه الأنظمة غير شرعية، لأنها لم تقم على أساس شرعي من اختيار جماهير الناس لها، أو اختيار أهل الحل والعقد، وبيعة عموم الناس، فهي تفتقد الرضا العام، الذي هو أساس الشرعية، وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف، وما قام بقوة السيف يجب أن يقاوم بسيف القوة، ولا يمكن أن يقاوم بسيف القلم! ونسى هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قديم أن التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقر له الوضع، ودان له الناس. وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان، بعد انتصاره على ابن الزبير رضي الله عنه وقد أقره الناس، ومنهم بعض الصحابة مثل: ابن عمر وأنس وغيرهما حقناً للدماء، ومنعاً للفتنة، وقد قيل: سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم. وهذا من واقعية الفقه الإسلامي، ورعايته لتغير الظروف. وترى جماعات العنف كذلك أن هذه المنكرات الظاهرة السافرة ـ التي تبيحها هذه الحكومات ـ من الخمر، والميسر، والزنى، والخلاعة والمجون، والربا، وسائر المحظورات الشرعية: يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة، وهي ترى أنها تملكها، فلا يسقط الوجوب عنها إلى التغيير باللسان بدل اليد، كما في الحديث الشهير: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه" رواه مسلم. ويغفل هؤلاء الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة التي قررها العلماء. وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع كله أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضى بها، وسكت عنها، ولم يحكم بكفرها، والقاعدة التي يزعمونها أن من لم يكفر الكافر فهو كافر! وبهذا توسعوا وغلوا في (التكفير) وكفروا الناس بالجملة. وعلى هذا لا يبالون من يقتل من هؤلاء المدنيين، الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل؛ لأنهم كفروا فحلت دماؤهم وأموالهم. كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة أنهم نقضوا العهد، بعدم أدائهم للجزية، وبتأييدهم لأولئك الحكام المرتدين، وأنظمتهم الوضعية، ولرفضهم للشريعة الإسلامية. وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة، وحل دمهم ومالهم. وبهذا استحلوا سرقة محلات الذهب من الأقباط في مصر، كما استحلوا سرقة بعض المسلمين أيضاً. وهم يرون أن السياح وأمثالهم، الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدهم الفقهاء (مستأمنين) ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، يرون هؤلاء مستباحي الدم؛ لأنهم يأخذوا الإذن من دولة شرعية، ولأن بلادهم نفسها محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم!! وكذلك يقول هؤلاء عن الدور الغربية ـ التي يقيم بعض هؤلاء فيها ـ وقد أعطتهم حق الأمان أو حق اللجوء السياسي لمن طردوا من بلادهم الأصلية، فآوتهم هذه الدول من تشرد، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف. يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجح: إن هذه الدول كلها كافرة، محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعاً حتى يسلموا فيسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة رغم نجاستها. وهؤلاء الكفار: دماؤهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين. ويذكرون هنا آيات وأحاديث يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها من الآيات والأحاديث التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف! هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر تشيب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها الأبدان: ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين، وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين. وهو ـ بلا ريب ـ فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل من كل جانب. ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطأوا فيه في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة. ظاهرة العنف إسلامية أم عالمية؟ وهنا يحق لنا أن نسأل عن العنف: هل هو ظاهرة إسلامية؟ أو هو ظاهرة عالمية؟ فبعض أبواق الإعلام الغربي ـ ومن يدور في فلكها في ديارنا ـ تريد أن يبرز الإرهاب، وكأنه مقصور على المسلمين أو كأن جنسيته إسلامية، وخصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر، وهذا خطأ فاحش، بل ظلم مبين. لقد وجدنا العنف في أقطار ودول شتى في أنحاء العالم، لقد وجدناه في كل القارات في أيرلندا، وفي اليابان، وفي أمريكا نفسها، وفي الهند، وفي إسرائيل. فلماذا ألصق بالمسلمين وحدهم دون غيرهم؟ إنه الإعلام الغربي والأمريكي والصهيوني، الذي يكتم الحق، ويشيع الباطل، ويقولون على الناس الكذب وهم يعلمون. أسباب العنف في العالم الإسلامي: صحيح أن هناك عنفاً في العالم الإسلامي، ولكنه عنف له أسبابه ودوافعه، فما هي؟ أسبابه: أما أسباب هذا العنف، فيمكن تلخيصها فيما يلي: 1. المظالم الواقعة على المسلمين من الخارج: فلسطين ـ البوسنة ـ كوسوفو ـ الشيشان ـ كشمير ـ السودان. 2. طغيان بعض الحكام، واضطهادهم لدعاة الإسلام، ومصادرة حرياتهم، وإغلاق الأبواب كلها دونهم، وعدم تمكينهم من حرية الدعوة مثل غيرهم، واستجابتهم لوساوس القوى المعادية للإسلام من صليبيين وغيرهم. 3. التضييق على الفكر الوسطي المعتدل، مما أتاح لفكر العنف أن يعمل في السراديب تحت الأرض، حيث لا يحاكم ولا يناقش. ولو عمل تحت سمع القانون وبصره لكان أقل وأهدى. 4. الخلل الفكري والفقهي لدى بعض الفصائل الداعية للإسلام، التي وقفت عند بعض الظواهر من النصوص، ولم تغص في مقاصدها، ولم تضم بعضها إلى بعض. وهذه أهم الأسباب في ـ رأيي ـ وينبغي أن نلقي الضوء على السبب الأخير لخطورته، وشدة تأثيره. حقيقة فصائل العنف: هذه الفصائل الداعية للعنف إما: 1. عملاء للقوى الصهيونية والصليبية والمادية المعادية للإسلام، اخترقوا الجماعات الإسلامية، وحركوها من حيث لا تدري. 2. أو جهلاء مخلصون، يعملون مجاناً لحساب هذه القوى المعادية من حيث لا يشعرون، وهذا هو الأغلب. ولو أن القوى المعادية استأجرت أناساً ودفعت لهم مئات الملايين ما خدموها بأفضل مما يخدمهم به هؤلاء في تشويه صورة الإسلام. جهل هؤلاء جهل مركب (جهل من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري) كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } (سورة البقرة: 11) آفة هؤلاء ـ في الأغلب ـ في عقولهم، وليست في ضمائرهم، فأكثرهم مخلصون، ونياتهم صالحة، وهم متعبدون لربهم، شأنهم شأن أسلافهم من الخوارج الذين كفروا عامة المسلمين، وكفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واستحلوا دمه، ودماء المسلمين معه، وصحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه. قالت الأحاديث في الصحيحين: "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ابن ماجه رقم 169 ـ الحاكم 2/147. فهم صوام قوام، قراء عباد، ولكن قراءتهم للقرآن لا تتجاوز حناجرهم، أي لم تدخل إلى أعماق قلوبهم وعقولهم ليفقهوه حق الفقه، ويتعرفوا على أسراره ومقاصده، دون أن يجعلوا همهم الوقوف عند ألفاظه وظواهره. وقد أدى بهم هذا الفقه الأعوج إلى استباحة دماء المسلمين الآخرين وأموالهم، حتى استباحوا فارس الإسلام وابنه البكر ـ علي بن أبي طالب وقال شاعرهم يمدح قاتله: يا ضربة من تقي ما أراد بها إني لأذكره يوماً فأحسبه إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً أوفى البرية عند الله ميزانا حسن النية لا يبرر الأعمال الطائشة: ولقد حذر رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم من الأعمال الطائشة، والتصرفات الرعناء، التي قد يقوم بها بعض الناس الطيبين، بنوايا حسنة، وبواعث نبيلة، دون أن ينظروا في مآلاتها، ويفكروا في وخيم عواقبها، وذلك لقصر نظرهم، وضيق أفقهم، فإذا لم يتنبه المجتمع لهم، ويأخذ على أيديهم، ويمنعهم من الاستمرار في تفكيرهم الأخرق، فإنهم سيودون بالمجتمع كله، وينتهي بهم طيشهم ـ مع حسن نيتهم ـ إلى هلاكهم وهلاك الجماعة كلها معهم. ولذا حذر الرسول الكريم الجماعة ـ ممثلة في أهل البصيرة وأولي العلم والحكمة ـ أن تتيقظ لهم، وتأخذ على أيديهم، تمنعهم من تنفيذ ما فكروا فيه وعقدوا عليه العزم؛ حفظاً لوجود الجماعة كلها، وحرصاً على حياتها وحياتهم معها. وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً حياً رائعاً ناطقاً، وهو مثل ركاب السفينة الواحدة التي تتكون من طابقين أو أكثر، وبعض الناس في أعلاها، وبعضهم في أسفلها. فلو أراد ركاب الطابق الأسفل أن يخرقوا في نصيبهم خرقاً، ليستقوا منه الماء مباشرة من النهر أو البحر، بدعوة أنهم يخرقون في نصيبهم وهم أحرار فيه، وأنهم لا يريدون أن يؤذوا من فوقهم بكثرة المرور عليهم بين حين وآخر. وليس أفضل من أن نقرأ هذا الحديث النبوي الرائع بصيغته كاملاً، كما جاء في صحيح البخاري: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً". رواه البخاري برقم 2493. إن الحديث يبين لنا المسئولية التضامنية المشتركة للأمة، وأنها لا يجوز لها أن تدع بعض أبنائها يتسببون في غرقها بجهلهم وسوء تصرفهم، وإ كانوا مخلصين، فالإخلاص لا يكفي وحده، ولكن لابد من تحري الصواب مع الإخلاص. فقه هؤلاء الخوارج المحدثين فقه أعرج أعوج يقوم على ما يأتي: 1. خلل في فقه الجهاد. 2. خلل في فقه تغيير المنكر بالقوة. 3. خلل في فقه الخروج على الحكام. 4. خلل في فقه التكفير. وسنتحدث عن كل واحدة من هذه الألوان من الخلل بما يوضحه، ويزيل عنه اللبس والغموض. 1. الخلل في فقه الجهاد: يبدأ الخلل في فقه الجهاد عندهم أنهم يرون قتال كل الكفار واجباً، وإن كانوا مسالمين للمسلمين. ونريد أن نسألهم هنا سؤالاً صريحاً: لماذا نقاتل الكفار؟ لكفرهم؟ أو لعدوانهم؟ لو كان القتال لمجرد الكفر لوجب أن نقتل الشيوخ، والنساء، والرهبان، والحراثين، والتجار، ومن في حكمهم ممن لا يحارب ولا يقاتل، ولكن هذا محظور، ولهذا نهتنا الأحاديث النبوية، والوصايا الراشدية من أبي بكر وعمر، عن قتلهم. وجاء عن ابن عباس، في تفسير قوله تعالى: (ولا تعتدوا) قال: الاعتداء: قتل النساء والصبيان. وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (قاعدة في قتال الكفار) على أن من زعم أن قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة: 190) وأضيف إلى ذلك: أنه معلل بعلة لا تقبل النسخ، وهي قوله: (إن الله لا يحب المعتدين) ومثل هذا لا ينسخ أبداً. من أحكام القتال في القرآن: وينبغي لمن أراد أن يعرف أحكام القتال أن يرجع أول ما يرجع إلى المصدر الأول للإسلام، وهو القرآن وما يبينه من صحيح السنة. ومن أبرز هذه الأحكام: 1ـ القتال لمن يقاتل المسلمين: قرأ القرآن بتدبر، وضم آياته بعضها إلى بعض تبين له أنه إنما شرع القتال لمن يقاتل المسلمين، أو يتعدى على حرماتهم، أو على المستضعفين من عباد الله، كما نرى في هذه الآيات: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ "39" الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (سورة الحج: 39 ، 40) {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ "190" وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } (سورة البقرة: 190 ، 191) {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } (سورة النساء: 90) {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا } (سورة النساء: 91) {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } (سورة التوبة: 13) {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } (سورة النساء: 75) 2ـ ليس القتال لإكراه الناس على الإسلام: وليس القتال في الإسلام لإكراه الناس على الدخول في الإسلام. فالإسلام يرفض بصورة قاطعة الإكراه في الدين. يقول تعالى في القرآن المكي: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } (سورة يونس: 99) ويقول في القرآن المدني: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (سورة البقرة: 256) بل هذا الرفض للإكراه مقرر من عهد نوح شيخ المرسلين: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } (سورة هود: 28) والقرآن لا يعتبر الإيمان إيماناً إلا إذا نشأ عن اختيار حر، وإلا رفض، مثل إيمان فرعون حينما أدركه الغرق: {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (سورة يونس: 90) فكان الرد الإلهي عليه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } (سورة يونس: 91) وكذلك رفض القرآن إيمان الأمم التي تعلن الإيمان حين ينزل بها بأس الله وعقوبته: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ "84" فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } (سورة غافر: 84 ، 85) القتال إذن ليس لكفر الكفار، فالكفر واقع بمشيئة الله تعالى المرتبطة بحكمته. وتعدد الأديان أمر مفروغ منه في عقيدة المسلم: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } (سورة يونس: 99) {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (سورة هود: 118 ، 119) أي خلقهم ليختلفوا، مادام قد أعطى كلا منهم العقل والإرادة. 3ـ القتال لمنع فتنة في الدين: وشرع الإسلام القتال كذلك لمنع الفتنة في الدين، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سورة الأنفال: 39) الفتنة هي: مصادرة حرية الناس واضطهادهم من أجل عقيدتهم، مثل (أصحاب الأخدود) الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات. والقرآن يعتبر هذه الفتنة للناس أشد من القتل، وأكبر من القتل؛ لأن القتل يتلف الجسم، والفتنة تتلف العقل والإرادة، وهما حقيقة الإنسان. ولذا رد القرآن على المشركين الذين أعظموا القتال في الشهر الحرام، وقد وقع خطأ من بعض المسلمين، وهونوا من صدهم على سبيل الله وإخراج الناس من ديارهم وفتنتهم في دينهم، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (سورة البقرة: 217) ومعنى هذا: أن الإسلام يشرع القتال، ليهيئ مناخ الحرية للناس، ليؤمن من آمن عن إرادة واختيار حر، ولا يخشى الفتنة في دينه والاضطهاد من أجل عقيدته. آية السيف: وإذا كان الأمر كما وضحته هذه الآيات، في شأن القتال، فما معنى (آية السيف) التي زعم من زعم أنها نسخت كذا وكذا من القرآن؟ إن القرآن يصدق بعضه بعضاً، ولا يجوز دعوى نسخ آية منه إلا بيقين. ونسأل هؤلاء: آية السيف التي زعموا أنها نسخت مائة وعشرين آية أين هي؟ قال بعضهم إنها آية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (سورة التوبة: 36) وهذه ليست إلا المعاملة بالمثل، قاتلوهم كافة كما يقاتلونكم كافة. وقال آخرون: آية السيف هي قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (سورة التوبة: 5) وهذه الآية نزلت في مشركي العرب الذين نكثوا العهد، وأخرجوا المؤمنين من ديارهم، وبدأوا المسلمين بالقتال، كما قال تعالى في نفس السياق: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } (سورة التوبة: 13) وقد أمهلوا أربعة أشهر يسيحون في الأرض، ثم بعد ذلك عليهم أن يحددوا موقفهم. قبل هذه الآية نقرأ. {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (سورة التوبة: 4) وبعدها نقرأ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } (سورة التوبة: 6) وعقبها نقرأ: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (سورة التوبة: 7) وقال بعضهم: آية السيف هي قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (سورة التوبة: 29) وهذه الآية في قتال انعقدت أسبابه بوقوف هؤلاء ضد الدعوة، وصدهم الدعاة أو قتلهم، أو تآمرهم على المسلمين، ومعاونتهم لأعدائهم المحاربين لهم. وقد نزلت بعد غزوة تبوك، التي وقعت مع دولة البيزنطية. وقوله: (حتى يعطوا الجزية) غاية للقتال، أي يقاتلون حتى يخضعوا للدولة المسلمية، ويدفعوا لها ضريبة الحماية لهم في أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم. وليس من الضروري أن تسمي (جزية) كما فعل سيدنا عمر مع بني تغلب، فقد رضى منهم أن تسمى زكاة أو صدقة، فالعبرة عنده بالمسميات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين. واستدل بعضهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ "65" الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (سورة الأنفال: 65 ، 66) وهذا في قتال قام بالفعل أو انعقدت أسبابه، فالتحريض من القيادة للجند واجب، حتى يدخلوا المعركة أقوياء متوكلين على الله. وقبل هذه الآية: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وبعدها: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } (سورة الأنفال: 61 ، 62) وقبلها: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } (سورة الأنفال: 60) فالمطلوب إذاً من المسلمين هو: 1. إعداد المستطاع من القوة والمعدات؛ إرهاباً لعدو الله وعدوهم، فهذه الرهبة هي التي تمنع وقوع الحرب. 2. الجنوح للسلم إذا جنح العدو لها حقيقة لا إدعاء. 3. الوقوف في وجه المخادعين بالسلم اعتماداً على نصر الله للمؤمنين المتآلفين. 4. تحريض المؤمنين على القتال، فإن الواحد منهم بعشرة حال القوة، وباثنين في حال الضعف. بين الجهاد والقتال: ومن المهم هنا أن نميز بين الجهاد والقتال، فقد حدث خلط شديد بينهما، في حين أنهما مختلفان لغة وشرعاً، واشتقاق كل منهما يدل على اختلافهما، فالجهاد: مشتق من بذل الجهد وهو الوسع، أو تحمل الجهد وهو المشقة. أما القتال فهو مشتق من القتل. وفي الشرع كل مسلم مطالب بالجهاد، كما قال تعالى في خطاب المؤمنين: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (سورة الحج: 78) وقال تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } (سورة الحجرات: 15) وهذا يتم بمجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة المظالم والمنكرات في المجتمع، ومجاهدة المشركين: باللسان والقلم، وبالمال، وبالسلاح، كل في أوانه، وفي موضعه. ولا غرو أن نجد في القرآن المكي قبل أن يشرع القتال الأمر بالجهاد في مثل قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } (سورة الفرقان: 52) وكذلك في أوائل العنكبوت: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (سورة العنكبوت: 6) والجهاد هنا هو جهاد الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله. وفي أواخر السورة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة العنكبوت: 69) فكل مسلم إذاً يجب أن يكون مجاهداً، وليس بالضرورة أن يكون مقاتلاً، إلا عندما توجد أسباب القتال. حديث (بعثت بالسيف): أما حديث "بعثت بالسيف ـ بين يدي الساعة ـ حتى يعبد الله وحده" فقد بحثنا في سنده ومتنه، وبينا في بحث ضاف: أنه ضعيف عند التحقيق، فليرجع إليه. أنظره في (مجلة بحوث السنة والسيرة) في جامعة قطر، العدد العاشر، ص27ـ 40. وفي الجزء الثالث من كتابنا (فتاوى معاصرة). أما من ناحية السند: فمداره على عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وقد اختلف الأئمة في توثيقه، وتجريحه، والمجرحون له اكثر، وهم من أمثال الإمام احمد الذي قال: أحاديثه مناكير، والإمام يحيى بن معين الذي ضعفه، والإمام النسائي وغيرهم. وحتى الذين وثقوه لم يوثقوه بإطلاق. بل منهم من قال: ليس به بأس، ومنهم من رماه بالقدر. على أنهم قالوا: تغير في آخر حياته. وهذا يكفي في التشكيك فيما يرويه. وقد ذكر البخاري في صحيحه جزءاً من هذا الحديث معلقاً، ولكن بصيغة التمريض، بقوله: (يذكر عن ابن عمر) مما يدل على ضعفه عنده. وقد ضعفه الشيخ شعيب وإخوانه في تخريج المسند، وفسروا ذلك بما يشفي ويكفي. وإذا غضضنا الطرف عن المسند، ونظرنا في متن الحديث ومضمونه، وجدناه مخالفاً مخالفة صريحة للقرآن، الذي لم يقر في آية واحدة من آياته بأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالسيف، بل أرسله بالهدى ودين الحق، وبالبينات والشفاء والرحمة للعالمين والمؤمنين. وهذا ثابت بوضوح في القرآن المكي، وفي القرآن المدني على السواء. يقول تعالى في سورة الأنبياء وهي مكية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (سورة الأنبياء: 107) وعبر عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما أنا رحمة مهداة" الحاكم 1/35 وصححه، ووافقه الذهبي. وقال تعالى في سورة النحل، وهي مكية: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (سورة النحل: 89) وقال تعالى في سورة يونس، وهي مكية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (سورة يونس: 57) وقال تعالى في سورة التوبة، وهي مدنية: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (سورة التوبة: 33) وقد تكررت بلفظها في سورة (الصف: 9) وهي مدنية. وفي سورة الفتح وهي مدنية نقرأ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } (سورة الفتح: 28) ولقد بينت آيات القرآن موقف الرسول الكريم عند تولي الناس وإعراضهم عنه. في ختام سورة التوبة يقول: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ "128" فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } (سورة التوبة: 128 ، 129) وفي سورة آل عمران، وهي مدنية: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (سورة آل عمران: 20) وفي سورة النور، وهي مدنية: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (سورة النور: 54) وهذه الآيات كلها قد اتفقت على أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما بعث بالرحمة والهدى ودين الحق، وتبيان كل شيء، وإقامة الحجة على الناس، ولم يبعث شاهراً سيفه على الناس، حتى في حالة تولي الناس عنه: لم يؤمر بأن يشهر في وجوههم السيف، إنما قيل له: إنما عليك البلاغ، وإنما عليه ما حمل، وعليهم ما حملوا، وقل: حسبي الله. والمبشرون والمستشرقون وغيرهم من خصوم الإسلام يشيعون أن الإسلام إنما انتشر بالسيف، وأن محمداً إنما انتصر بالسيف، ويستند كثيرون منهم إلى هذا الحديث وأمثاله. والحقيقة أن الإسلام إنما شهر السيف في وجه الذين صدوا عن سبيله، وقاوموه بالقوة، ورفعوا السيف في وجهه، وغزوه في عقر داره في أحد والخندق، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ "190" وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ "191" فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "192" وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } (سورة البقرة: 190 ـ 193) فهذا هو منطق القرآن، بين كل البيان، لا لبس فيه ولا غموض، فإذا عارضه حديث مثل حديث (بعثت بالسيف)، فلاشك أن القرآن هو المقدم، فهو المصدر الأول، والدليل الأول، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيف لظهر ذلك طوال ثلاثة عشر عاماً قضاها في مكة، وأصحابه يأتون إليه بين مضروب ومشجوج معتدى عليه، يسأذنونه في أن يدافعوا عن أنفسهم بالسلاح، فيقول لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة؛ حتى هاجروا إلى المدينة، فأذن الله لهم أن يدافعوا عن أنفسهم وحرماتهم ودعوتهم. كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ "39" الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (سورة الحج: 39 ، 40) والخلاصة: أن هذا الحديث: (بعثت بالسيف) سواء نظرنا إلى إسناده أو نظرنا إلى متنه، فهو مردود غير مقبول في ضوء موازين العلم وقواعده الضابطة. العلاقة بغير المسلمين: منذ أكثر من أربعين سنة ذكرت في كتابي (الحلال والحرام في الإسلام): إن الإسلام قد حدد العلاقة مع غير المسلمين في آيتين محكمتين من كتاب الله، تعتبران بمثابة الدستور في ذلك، يقول تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "8" إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة الممتحنة: 8 ، 9) وهاتان الآيتان نزلتا في شأن المشركين ـ عباد الأوثان، من قريش وأمثالهم ـ وقد شرع البر بالمسالمين منهم، والإقساط لهم، فاختار عنوان (البر) لهم، وهو الذي يستعمله المسلمون في أقدس الحقوق، بعد حق الله تعالى، وهو بر الوالدين. حث القرآن هنا على برهم والإقساط إليهم، والإقساط ـ أي العدل ـ أن يعطوا حقوقهم ولا يبخسوا شيئاً منها، والبر: أن يعطوا فوق حقوقهم. كما أن الإقساط أن تأخذ منهم الحق الواجب عليهم، ولا تزيد عنه، أما البر فهو أن تتنازل لهم عن بعض حقك اختياراً وكرماً. وهذا في شأن الوثنيين الذين نزلت بخصوصهم الآيتان الكريمتان. ولكن الإسلام أفرد (أهل الكتاب) بعنوان خاص، وبمعاملة خاصة، حتى أجاز مصاهرتهم والتزوج من نسائهم، ومع هذا أنه أجاز للمسلم أن تكون زوجته وشريكة حياته، وأم أولاده كتابية (مسيحية أو يهودية) ومقتضى هذا: أن يكون أهلها أصهاره، وهم كذلك أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم، وهؤلاء لهم حقوق "أولى الأرحام، وذوي القربى". كما أن الإسلام اعتبر النصارى أقرب مودة للمسلمين من غيرهم، يقول تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } (سورة المائدة: 82) كما قال نبي الإسلام أيضاً: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، في الدنيا والآخرة" متفق عليه عن أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، رقم 1526). 2. الخلل في فقه تغيير المنكر بالقوة: أما الخلل في فقه (تغيير المنكر بالقوة) فيتضح بأنهم لا يراعون شروط المنكر الذي أوجب الحديث تغييره، أي المنكر الذي يجب أن يغير باليد أو باللسان أو بالقلب، وذلك أضعف الإيمان. شروط تغيير المنكر باليد (أي القوة): لابد أن يكون مجمعاً على أنه منكر، إذ لا إنكار في المسائل الاجتهادية الخلافية. وأن يكون ظاهراً بحيث يراه الناس، دون أن يتجسس على صاحبه، ولهذا قال: "من رأى منكم منكراً". وأن يكون واقعاً بالفعل ساعة الإنكار، ولا يكون قد وقع وفرغ منه، ولا متوقعاً حدوثه بعد. ومراتب تغيير المنكر ـ كما ذكرها الإمام الغزالي في الإحياء ـ متفاوتة ومتدرجة. والتغيير بالقهر والمحاربة هو أشد مراتب التغيير، فلا يجوز إلا لذي قوة وشوكة بحيث يكون أقوى ممن ينكر عليه. ولا يجوز تغيير المنكر بوقوع اكبر منه، أو مثله، فالضرر لا يزال بضرر مثله أو اكبر منه. ولا بأس بأن نذكر بعض التفاصيل في هذه الشروط لأهميتها: الشرط الأول: أن يكون محرماً مجمعاً عليه: أي أن يكون "منكراً" حقاً، ونعني هنا: المنكر الذي يطلب تغييره باليد أولاً، ثم باللسان، ثم بالقلب عند العجز ولا يطلق "المنكر" إلا على "الحرام" الذي طلب الشارع تركه طلباً جازماً، بحيث يستحق عقاب الله من ارتكبه .. وسواء أكان هذا الحرام فعل محظور، أم ترك مأمور. وسواء أكان الحرام من الصغائر أو من الكبائر، وإن كانت الصغائر قد يتساهل فيها ما لا يتساهل في الكبائر، ولاسيما إذا لم يواظب عليها، وقد قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا } (سورة النساء: 31) وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة. فلا يدخل في المنكر إذاً المكروهات، أو ترك السنن والمستحبات، لابد إذاً أن يكون المنكر في درجة "الحرام"، وأن يكون منكراً شرعياً حقيقياً، أي ثبت إنكاره بنصوص الشرع المحكمة، أو قواعده القاطعة، التي دل عليها استقراء جزئيات الشريعة. وليس إنكاره بمجرد رأي أو اجتهاد قد يصيب ويخطئ، وقد يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. وكذلك يجب أن يكون مجمعاً على أنه منكر، فأما ما اختلف فيه العلماء المجتهدون قديماً أو حديثاً، بين مجيز ومانع فلا يدخل دائرة "المنكر" الذي يجب تغييره باليد وخصوصاً للأفراد؛ ولهذا قرر العلماء قاعدة أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية والخلافية. اقرأ أقوال العلماء في ذلك في كتابنا (كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف؟) نشر مكتبة وهبة ـ القاهرة. فإذا اختلف الفقهاء في حكم التصوير، أو الغناء بآلة، وبغير آلة، أو في كشف وجه المرأة وكفيها، أو في تولي المرأة القضاء ونحوه، أو في إثبات الصيام والفطر برؤية الهلال في قطر آخر بالعين المجردة، أو بالمرصد، أو بالحساب، أو غير ذلك من القضايا التي طال فيها الخلاف قديماً وحديثاً لم يجز لإنسان مسلم أو لطائفة مسلمة أن تتبنى رأياً من الرأيين أو الآراء المختلفة فيها، وتحمل الآخرين عليه بالعنف. حتى رأى الجمهور والأكثرية لا يسقط رأي الأقل، ولا يلغي اعتباره، حتى لو كان المخالف واحداً، مادام من أهل الاجتهاد، وكم من رأي مهجور في عصر ما أصبح مشهوراً في عصر آخر. وكم ضعف رأي لفقيه، ثم جاء من صححه ونصره وقواه، فأصبح هو المعتمد والمفتي به. وهذا آراء شيخ الإسلام "ابن تيمية" في الطلاق وأحوال الأسرة، قد لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت تقاوم قروناً عدة بعد وفاته ثم هيأ الله لها من نشرها وأيدها، حتى غدت عمدة الإفتاء والقضاء والتقنين، في كثير من الأقطار الإسلامية. إن المنكر الذي يجب تغييره بالقوة لابد أن يكون منكراً بينا ثابتاً، اتفق أئمة المسلمين على أنه منكر، وبدون ذلك يفتح باب شر لا آخر له، فكل من يرى رأياً يريد أن يحمل الناس عليه بالقوة؟! الشرط الثاني: ظهور المنكر: أي أن يكون المنكر ظاهراً مرئياً، فأما ما استخفى به صاحبه عن أعين الناس وأغلق عليه بابه فلا يجوز لأحد التجسس عليه، بوضع أجهزة التصنت عليه، أو كاميرات التصوير الخفية، أو اقتحام داره عليه لضبطه متلبساً بالمنكر. وهذا ما يدل عليه لفظ الحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيره .." فقد ناط التغيير برؤية المنكر ومشاهدته، ولم ينطه بالسماع عن المنكر من غيره. وهذا: لأن الإسلام يدع عقوبة من استتر بفعل المنكر ولم يتبجح به، إلى الله تعالى يحاسبه في الآخرة، ولم يجعل لأحد عليه سبيلاً في الدنيا، حتى يبدي صفحته ويكشف ستره. حتى إن العقاب الإلهي ليخفف كثيراً على من استتر بستر الله، ولم يظهر المعصية كما في الحديث الصحيح: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين" متفق عليه عن أبي هريرة. (اللؤلؤ والمرجان: رقم 1883). ومن الوقائع الطريفة التي لها دلالتها في هذا المقام: ما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ما حكاه الغزالي في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من "الإحياء": أن عمر تسلق دار رجل، فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه، فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد، فأنت عصيته من ثلاثة أوجه، فقال: وما هي؟ قد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } (سورة الحجرات: 12) وقد تجسست، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (سورة البقرة: 189) وقد تسورت من السطح، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (سورة النور: 27) وما سلمت، فتركه عمر، وشرط عليه التوبة. الإحياء 7/1218ط. الشعب، القاهرة. والشرط الثالث لتغيير المنكر بالقوة: القدرة الفعلية على التغيير: أي: أن يكون مريد التغيير قادراً بالفعل بنفسه، أو بمن معه من أعوان على التغيير بالقوة. بمعنى أن يكون لديه قوة مادية أو معنوية تمكنه من إزالة المنكر بسهولة. وهذا الشرط مأخوذ من حديث أبي سعيد أيضاً لأنه قال: "فعن لم يستطع فبلسانه" أي: فمن لم يستطع التغيير باليد، فليدع ذلك لأهل القدرة، وليكتف هو بالتغيير باللسان والبيان، إن كان في استطاعته. وهذا في الغالب إنما يكون لكل ذي سلطان في دائرة سلطانه، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه وبناته الذين يعولهم ويلي عليهم، وصاحب المؤسسة في داخل مؤسسته، والأمير المطاع في حدود إمارته وسلطته، وحدود استطاعته .. وهكذا. (أعني أن من الأمراء من يعجز عن بعض الأشياء في إمارته نفسها، وقد رأينا عمر بن عبد العزيز يعجز عن رد الأمر شورى بين المسلمين، بعيداً عن نظام الوراثة). وإنما قلنا: القوة المادية أو المعنوية؛ لأن سلطة الزوج على زوجته، أو الأب على أولاده، ليست بما يملك من قوة مادية، بل بما له من احترام وهيبة تجعل كلمته نافذة، وأمره مطاعاً. ومن الناس من يكون له مقام وجيه في جماعته يجعل أمره نافذاً، وإن لم يكن معه قوة مادية. إذا كان المنكر من جانب الحكومة: هنا تظهر مشكلة ما إذا كان المنكر من جانب الحكومة أو الدولة التي تملك مقاليد القوة المادية والعسكرية، ماذا للأفراد والفئات، أو عليهم أن يعملوا لتغيير المنكر الذي ترتكبه السلطة أو تحميه؟ والجواب: إن عليهم أن يملكوا القوة التي تستطيع التغيير، وهي في عصرنا إحدى ثلاث: الأولى: القوات المسلحة، التي يستند إليها كثير من الدول في عصرنا ـ ولاسيما في العالم الثالث ـ في إقامة حكمها، وتنفيذ سياستها، وإسكات خصومها بالحديد والنار، فالعمدة لدى هذه الحكومات ليس قوة المنطق، بل منطق القوة، فمن كان معه هذا القوات استطاع أن يضرب بها كل تحرك شعبي يريد التغيير، كما رأينا ذلك في بلاد شتى آخرها في الجزائر، وقبلها في الصين، وإخماد ثورة الطلبة المطالبين بالحرية. الثانية: المجلس النيابي، الذي يملك السلطة التشريعية، وإصدار القوانين وتغييرها، وفقاً لقرار الأغلبية، المعمول به في النظام الديمقراطي، فمن ملك هذه الأغلبية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي غير مزيف أمكنه تغيير كل ما يرى من نكرات، بوساطة التشريع الملزم، الذي لا يستطيع وزير، ولا رئيس حكومة، ولا رئيس دولة أن يقول أمامه: لا. الثالثة: قوة الجماهير الشعبية العارمة، التي تشبه الإجماع، والتي إذا تحركت لا يستطيع أحد أن يواجهها، أو يصد مسيرتها؛ لأنها كموج البحر الهادر أو السيل العارم؛ لا يقف أمامه شيء، حتى القوات المسلحة نفسها؛ لأنها في النهاية جزء منها، وهذه الجماهير ليسوا إلا أهليهم وآباءهم وأبناءهم وإخوانهم. فمن لم يملك إحدى هذه القوى الثلاث فما عليه إلا أن يصير، ويصابر ويرابط، حتى يملكها، وعليه أن يغير باللسان، والقلم، والدعوة والتوعية والتوجيه، حتى يوجد رأياً عاماً يطالب بتغيير المنكر، وأن يعمل على تربية جيل طليعي مؤمن يتحمل تبعة التغيير. وهذا ما يشير إليه حديث أبي ثعلبة الخشني، حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } (سورة المائدة: 105) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودينا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم" رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح، وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك. ورواه ابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي حكيم. وفي بعض الروايات: "ورأيت أمراً لا يدان ـ أي لا طاقة ـ لك به". الشرط الرابع: عدم خشية منكر اكبر: أي ألا يخشى من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر اكبر منه، كأن يكون سبباً لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات، و تنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكناً، ويزداد المتجبرون تجبراً وفساداً في الأرض. ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر، مخافة ما هو أنكر منه وأعظم ارتكاباً لأخف الضررين، واحتمالاً لأهون الشرين. وفي هذا جاء الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " لولا أن قومك حدثوا عهد بشرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم" متفق عليه من حديث عائشة (اللؤلؤ والمرجان) رقم 841. أي لنقضها وأعاد بناءها من جديد حتى يدخل فيها ما ترك منها، حين بنتها قريش، فقصرت بها النفقة. وفي القرآن الكريم ما يؤيد ذلك، في قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، حين ذهب إلى موعده مع ربه، الذي بلغ أربعين ليلة، وفي هذه الغيبة فتنهم السامري بعجله الذهبي، حتى عبده القوم، ونصحهم أخوه هارون فلم ينتصحوا، وقالوا: {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } (سورة طه: 91) وبعد رجوع موسى ورؤيته لهذا المنكر البشع ـ عباد العجل ـ اشتد على أخيه في الإنكار، وأخذ بلحيته يجره إليه من شدة الغضب: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا "92" أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي "93" قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (سورة طه: 92 ـ 94) ومعنى هذا: أن هارون قدم الحفاظ على وحدة الجماعة، في غيبة أخيه الأكبر حتى يحضر، ويتفاهما معاً كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة. وهذه هي الشروط الأربعة، التي يجب أن تتوافر لمن يريد تغيير المنكر بيده، وبتعبير آخر؛ بالقوة المادية المرغمة. تغيير المنكرات الجزئية ليس علاجاً: أود أن أنبه هنا على قضية في غاية الأهمية لمن يشتغلون بإصلاح حال المسلمين، وهي أن التخريب الذي أصاب مجتمعاتنا خلال عصور التخلف، وخلال عهود الاستعمار الغربي، وخلال عهود الطغيان والحكم العلماني؛ تخريب عميق ممتد، لا يكفي لإزالته تغيير منكرات جزئية، كحفلة غناء، أو تبرج امرأة في الطريق، أو بيع أشرطة "كاسيت" أو "فيديو" تتضمن ما لا يليق أو ما لا يجوز. إن الأمر اكبر من ذلك وأعظم، لابد من تغيير أشمل وأوسع وأعمق. تغيير يشمل الأفكار والمفاهيم، ويشمل القيم والموازين، ويشمل الأخلاق والأعمال، ويشمل الآداب والتقاليد، ويشمل الأنظمة والتشريعات. وقبل ذلك كله لابد أن يتغير الناس من داخلهم بالتوجيه الدائم، والتربية المستمرة، والأسوة الحسنة، فإذا غير الناس ما بأنفسهم كانوا أهلاً لأن يغير الله ما بهم وفق السنة الثابتة: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } (سورة الرعد: 11) ضرورة الرفق في تغيير المنكر: وقضية أخرى لا ينبغي أن ننساها هنا، وهي ضرورة الرفق في معالجة المنكر، ودعوة أهله إلى المعروف، فقد أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق، وبين لنا: أن الله يحبه في الأمر كله، وأنه ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. ومن الكلمات المأثورة: من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف. 3. الخلل في فقه الخروج على الحكام: وأما الخلل عند جماعات العنف في فقه الخروج على الحكام فهو يتمثل في أنهم يرون وجوب الخروج على الحكام المعاصرين في البلاد الإسلامية، للأسباب التي بيناها من قبل، ماداموا لا يحكمون بما أنزل الله، وماداموا يوالون أعداء الله، وماداموا يعادون الدعاة إلى الله، وماداموا قد فرضوا أنفسهم على شعوبهم بغير رضاها واختيارها. ومن هنا كان واجب النصيحة في الدين، وفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب مقاومة الظلمة، وتغيير المنكر بالقوة أو باليد، وغير ذلك من عمومات القرآن والسنة، كلها توجب الخروج على هؤلاء الحكام الظلمة ـ أو الكفرة ـ وتطهير بلاد المسلمين من شرهم وفسادهم، حتى لا تعم نقمتهم الناس جميعاً، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (سورة الأنفال: 25) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" رواه احمد 1/14 وأبو داود برقم 4338 والترمذي برقم 2168 وبان حبان برقم 304 عن أبي بكر الصديق. الأحاديث تأمرنا بالصبر على جور الأئمة: وأود أن أبدأ حديثي هنا بأني من الذين يطالبون حكام المسلمين أن يطبقوا شرع الله في جميع جوانب الحياة، ولا يعطلوا بعضه ويأخذوا بعضه، كما قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (سورة المائدة: 49) ولا يكونوا كبني إسرائيل، الذين قرعهم الله تعالى بقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (سورة البقرة: 85) ولا أرى أن وضع الحكم في معظم الأقطار الإسلامية وضع يرضى عنه الله ورسوله والمؤمنون، بل هناك مخالفات شتى لشريعة الإسلام في مجالات عدة ـ لا يجوز السكوت عليها ـ في التشريع، والاقتصاد، والسياسة، والثقافة وغيرها، وإن كنا نعترف أن هذه المخالفات الشرعية متفاوتة في كمها وكيفها من بلد إلى آخر. وهذا يوجب علينا أن نعمل على إصلاحها ـ ما استطعنا ـ بالنصح والدعوة والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق والحكمة، والجدال بالتي هي أحسن وتقديم البدائل الشرعية الصالحة للتطبيق المعاصر، بلد المحرمات القائمة، وتوعية الشعوب وتربيتها، وتجميعها لتسوق الحكام إلى التغيير السلمي، بدلاً من الفتن والمصادمات المسلحة. ولكنا نخالف جماعات العنف في حمل السلاح، والخروج على الحكام بالقوة المادية بدعوى أن هذا واجب ديني، وفريضة شرعة لما ذكروه من أدلة واعتبارات تؤيد وجهة نظرهم. فقد غفل هؤلاء ـ من جماعات العنف ـ عن أمر مهم، وهو أن الذي ذكروه هنا من النصوص، يدخل في باب العمومات والمطلقات، التي خصصتها أو قيدتها نصوص أخرى، جاءت تأمر بالصبر على جور الأئمة، ومظالم الأمراء وإن جاروا على حقوق الأفراد بأخذ المال، وضرب الظهر، ما لم يظهر منهم كفر بواح عندنا فيه من الله برهان. وما ذلك إلا للإبقاء على وحدة الأمة واستقرار الدولة، والحرص على حقن الدماء والخشية من أن تفتح أبواب فتن لا تسد، وأن تفتق فتوق يصعب رتقها، وقد شددت الأحاديث في هذا الجانب حتى لا يسارع أهل الورع وأهل الحماس بالخروج على السلطان الشرعي بكل ما يرونه مخالفاً. وحسبنا أن نلقي نظرة سريعة على الأحاديث، التي ذكرها صاحب (منتقي الأخبار) وشرحها الشوكاني في (نيل الأوطار) تحت عنوان: (باب الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والكف عن إقامة السيف) 1. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية" الطبراني 12/161. 2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي؛ وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" متفق عليه. البخاري 4/206. قال الشوكاني: (قوله: من فارق الجماعة شبراً): كناية عن معصية السلطان ومحاربته. قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة: السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكني عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق. (قوله: فميتته جاهلية) وفي رواية لمسلم: "فميتته ميتة جاهلية" وفي أخرى له، من حديث ابن عمر: "من خلع يداً من طاعة الله لقي الله ولا حاجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية". والمراد بالميتة الجاهلية: أن يكون حاله في الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع، لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافراً بل يموت عاصياً. ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره؛ ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن جاهلياً، أو أن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير، فظاهره غير مراد، ويؤيد أن المراد بالجاهلية التشبيه ما أخرجه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان وصححه؛ من حديث الحارث بن الحارث الأشعري من حديث طويل، وفيه: "من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه". (قوله: فوا ببيعة الأول فالأول): فيه دليل على أنه يجب على الرعية الوفاء ببيعة الإمام الأول ثم الأول، ولا يجوز لهم المبايعة للإمام الآخر قبل موت الأول. (قوله: ثم أعطوهم حقهم) أي ادفعوا إلى الأمراء حقهم الذي لهم المطالبة به وقبضه، سواء كان يختص بهم أو يعم، وذلك من الحقوق الواجبة في المال كالزكاة، وفي الأنفس كالخروج إلى الجهاد. 3. وعن عوف بن مالك الأشجعي؛ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم: الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم، ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة" رواه مسلم. 4. وعن حذيفة بن اليمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي؛ ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله! إن أدركت ذلك قال: تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع واطع" رواه احمد ومسلم. 5. وعن عرفجة الأشجعي؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع ـ على رجل واحد ـ يريد: أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" رواه احمد ومسلم. 6. وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان" متفق عليه. قال الشوكاني: في باب أحاديث غير هذه، بعضها تقدم في باب (براءة رب المال بالدفع إلى السلطان الجائر) في كتاب الزكاة. وبعضها مذكور في غير هذا الكتاب، من ذلك حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: "من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه، ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية" وقد قدمنا نحوه قريباً: عن الحارث بن الحارث الأشعري، ورواه الحاكم من حديث معاوية أيضاً، والبزار من حديث ابن عباس. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة؛ بلفظ: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية". وأخرج أيضاً مسلم نحوه، عن ابن عمر، وفيه قصة. وأخرج الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري؛ بلفظ: "من حمل علينا السلاح فليس منا" وأخرجاه أيضاً من حديث ابن عمر، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع. وأخرج احمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي ذر: "من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". وأخرج البخاري من حديث أنس: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تعالى". وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة؛ "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". وأخرج الشيخان وغيرهما، من حديث ابن عمر: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وأخرج الترمذي، من حديث ابن عمر: "ألا أخبركم بخير أمرائكم وشرارهم؟ خيارهم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتعلنونهم ويلعنونكم". وأخرج الترمذي من حديث أبي بكرة: "من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله تعالى". والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهذا طرف منها. قال الشوكاني: (وقوله: خيار أئمتكم ..الخ): فيه دليل على مشروعية محبة الأئمة، والدعاء لهم، وأن من كان من الأئمة محباً للرعية محبوباً لديهم، داعياً لهم ومدعواً له منهم، فهو من خيار الأئمة، ومن كان باغضاً لرعيته مبغوضاً عندهم، يسبهم ويسبونه فهو من شرارهم، وذلك لأنه إذا عدل فيهم وأحسن القول لهم أطاعوه وانقادوا له وأثنوا عليه، فلما كان هو الذي تسبب بالعدل وحسن القول إلى المحبة والطاعة والثناء منهم كان من خيار الأئمة، ولما كان هو الذي يتسبب أيضاً بالجور والشتم للرعية إلى معصيتهم له وسوء القالة منهم فيه كان من شرار الأئمة. (قوله: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) فيه دليل على أنه: لا يجوز منابذة الأئمة بالسيف مهما كانوا مقيمين للصلاة، ويدل ذلك بمفهومه على جواز المنابذة عند تركهم للصلاة وحديث عبادة بن الصامت المذكور، فيه دليل على أنه لا تجوز المنابذة إلا عند ظهور الكفر البواح. قوله: (فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة) فيه دليل على أن من كره بقلبه ما يفعله السلطان من المعاصي كفاه ذلك، ولا يجب عليه زيادة عليه. وفي الصحيح "فمن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" ويمكن حمل حديث الباب، وما ورد في معناه على عدم القدرة على التغيير باليد واللسان، ويمكن أن يجعل مختصا بالأمراء إذا فعلوا منكراً، لما في الأحاديث الصحيحة من تحريم معصيتهم ومنابذتهم، فكفى في الإنكار عليهم مجرد الكراهة بالقلب؛ لأن في إنكار المنكر عليهم باليد واللسان تظاهراً بالعصيان، وربما كان ذلك وسيلة إلى المنابذة بالسيف. (قوله: في جثمان إنس) ـ بضم الجيم وسكون المثلثة ـ أي لهم قلوب كقلوب الشياطين وأجسام كأجسام الإنس. (قوله: وإن ضُرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع): فيه دليل على وجوب طاعة الأمراء، وإن بلغوا في العسف والجور إلى ضرب الرعية وأخذ أموالهم، فيكون هذا مخصصاً لعموم قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (سورة البقرة: 194) وقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (سورة الشورى: 40) (قوله: وأثره علينا) والمراد: أن طاعتهم لمن يتولى عليهم لا تتوقف على إيصالهم حقوقهم، بل عليهم الطاعة ولو منعوهم حقهم. (قوله: "وإن لا ننازع الأمر أهله") أي الملك والإمارة، زاد احمد في رواية: "وإن رأيت أن لك في الأمر حقاً" فلا تعمل بذلك الظن، بل اسمع وأطع، إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة. (قوله: إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان) أي: نص آية أو خبر صريح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه: أنه لا يجوز الخروج عليهم مادم فعلهم يحتمل التأويل. قال الإمام النووي: المراد بالكفر هنا: المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين. قال النووي: وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور ـ في كتب الفقه ـ لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكى عن المعتزلة أيضاً: فغلظ من قائله، مخالف للإجماع. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه. قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها. قال: وكذلك ـ عند جمهورهم ـ المبتدع، قال: وقال بعض البصريين: تنعقد له وتستدام له؛ لأنه متأول. قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع، أو بدعة خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، وخلعه ونصب إمام عادل ما أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه. قال: ولا تنعقد لفاسق ابتداء، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب. وقال جماهير أهل السنة ـ من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين ـ: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك. قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة ـ من التابعين والصدر الأول ـ على الحجاج مع ابن الأشعث، وتأول هذا القائل قوله: "ألا ننازع الأمر أهله" في أئمة العدل. وحجة الجمهور: أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق، بل لما غير من الشرع، وظاهر من الكفر، قال القاضي: وقيل: إن هذا الخلاف كان أولاً، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم. والله أعلم. صحيح مسلم بشرح النووي 4/507. ونقل الحافظ في الفتح: إذا كانت المنازعة ـ في الولاية ـ: "فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادراً. قال الحافظ: ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جوراً بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح: المنع إلا أن يكفر، فيجب الخروج عليه. قال ابن بطال: إن حديث ابن عباس المذكور ـ في أول الباب ـ حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار. قال في الفتح: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك؛ بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث. انتهى. فتح الباري 12/8،7 طبعة دار الفكر. قال الشوكاني: وقد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة، ومنابذتهم بالسيف، ومكافحتهم بالقتال، بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولاشك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها؛ أخص من تلك العمومات مطلقاً، وهي متواترة المعنى، كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة، ولكنه لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح ـ من العترة وغيرهم ـ على أئمة الجور، فإنهم فعلوا ذلك باجتهاد منهم، وهم اتقى لله وأطوع لسنة رسول الله من جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم. ولقد أفرط بعض أهل العلم كالكرامية ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب، حتى حكموا بأن الحسين السبط رضي الله عنه وأرضاه باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية، فيا للعجب من مقالات تقشعر منها الجلود، ويتصدع من سماعها كل جلمود. 1هـ. نيل الأوطار 9/40. طبعة مكتبة الكليات الأزهرية. وقفه مع الحكام المعاصرين: بقى أن يقال هنا: إن جماعات العنف ترى أن الحكام الحاليين قد ارتكبوا (كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان) حينما عطلوا بعض أحكام الشرع عمداً، مثل إقامة الحدود، ومثل تحريم الربا، ومثل إباحة الخمر، ومثل نشر الخلاعة في أجهزة الإعلام المختلفة، بل إن بعضهم ليحارب المرأة المتحشمة، ويعتبر لبسها الخمار جريمة، في حين يطلق العنان للكاسيات العاريات، أو العاريات غير الكاسيات، ومنهم من يعتبر الدعوة إلى تحكيم الشريعة جريمة مخالفة للدستور، إلى غير ذلك مما يعلمه الخاص والعام. وأحب هنا أن أفرق بين نوعين من الحكام في ديار الإسلام: ا. النوع الأول: هو الذي يعترف بالإسلام ديناً للدولة، وبالشريعة مصدراً للقوانين، ولكنه مفرط في تطبيق الشريعة في بعض الجوانب، فهذا أشبه بالمسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويلتزم بأحكام الإسلام عامة، ولكنه يرتكب بعض الكبائر من فعل محظور، أو ترك مأمور، فالخوارج ومن وافقهم يكفرونه، وأهل السنة وجمهور المسلمين يعتبرونه مسلماً عاصياً، غير خارج من الملة، ما لم يستحل ذلك، أو ينكر معلوماً من الدين بالضرورة، وجل الحكام من هذا النوع. 2. والنوع الثاني: هو العلماني المتطرف، الذي يجاهر بالعداوة لشريعة الإسلام، ويسخر منها، ويعتبرها مناقضة للحضارة والتقدم، فهو يرفض الشريعة رفضاً، فهو أشبه بإبليس الذي رفض أمر الله بالسجود لآدم، ووصفه القرآن بأنه: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (سورة البقرة: 34) وقد تحدثنا عن هذا النوع في كتابنا (التطرف العلماني في مواجهة الإسلام). وقليل من الحكام هم الذين يمثلون هذا النوع، الذي يباهي بعداوته لشريعة الله، ويستحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويسقط ما فرضه الله، ويتبع غير سبيل المؤمنين، بل يتبع سبيل المجرمين، ويعمل جاهداً في تجفيف ينابيع التدين في نفوس جماهير المسلمين وفي حياتهم. وهؤلاء هم الذين يجب مقاومتهم والخروج عليهم، ولكن هذا كله مقيد بحدود القدرة والإمكان، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وكثيراً ما يؤدي استعمال القوة في غير موضعها إلى كوارث كبيرة، ربما عاقت العودة إلى الشريعة زمناً قد يقصر أو يطول. والأولى بالمسلمين هنا أن يتفقوا على آليات سلمية للتغيير، ويستفيدوا مما وصل إليه العالم عن طريق الوسائل الديمقراطية في التغيير، أو أي طرق أخرى لا تترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير. والمؤمن يلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت. ولا حرج على المسلمين أن يقتبسوا من الوسائل عند غيرهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، مادامت هذه الوسائل غير مخالفة لنصوص الشرع ولا قواعده، بل هي من (المصالح المرسلة) التي تتحقق بها مقاصد الشريعة ومنافع الناس. 4. الخلل في فقه التكفير: وأما الخلل في (فقه التكفير) فقد عالجناه في رسالتنا (ظاهرة الغلو في التكفير). وبعض هذه الجماعات يكفرون الحكام، وقد بحثنا ذلك في الفقرة الماضية. وبعضهم يكفرون المجتمع أو الناس بالجملة، فمنهم من يقول: رضوا بكفر الحكام، والرضا بالكفر كفر. ومنهم من يقول: لم يكفروا الحكام الكافرين، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر. ومنهم من يقول: تولوا هؤلاء الحكام، والله تعالى يقول: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (سورة المائدة: 51) ومنهم من يقول: هذه الجماهير لم تدخل الإسلام أصلاً حتى تخرج منه، لأنها لم تفهم المدلول الحقيقي لكلمة: (لا إله إلا الله) فهؤلاء ليسوا مسلمين. وكل هذه دعاوى لا تقوم على أسس علمية، فالمرء يثبت إسلامه بالشهادتين، ولسنا مطالبين أن نشق عن قلبه، بل نقبل ظاهره وندع ما خفي إلى الله. كما جاء في الحديث المتفق عليه: "فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله" عن أبي هريرة وابن عمر (اللؤلؤ والمرجان: 13، 14، 15). وقوله عليه الصلاة والسلام لأسامة: "هلا شققت عن قلبه؟!" ومن دخل الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين مثله، لأن اليقين لا يزال بالشك. والأصل هو حسن الظن بالمسلم، وحمل حاله على الصلاح ما أمكن ذلك، ولو وجد في قول أو فعل أو تصرف وجوه تحتمل الكفر، ووجه واحد يحتمل الإسلام؛ حمل على هذا الوجه إبقاءً على الأصل، وتحسيناً للظن بالمسلم. وقد بينا في رسالتنا المشار إليها: أن الغلو في التكفير وتوسيع نطاقه خطأ ديني، وخطأ علمي، وخطأ علمي، وخطأ سياسي، ولا يجوز للمسلم الحريص على دينه أن يتورط فيه، فلتراجع تلك الرسالة، فهي مركزة وكافية للكثيرين. بين العنف والإرهاب وهنا نقطة ينبغي أن ننبه عليها، وهي العلاقة بين (العنف) والإرهاب، وهي علاقة العموم والخصوص، بمعنى أن الإرهاب أخص من العنف، فكل إرهاب عنف، وليس كل عنف إرهاباً، فيما أراه. الإرهاب: أن تستخدم العنف فيمن ليس بينك وبينه قضية، وإنما هو وسيلة لإرهاب الآخرين وإيذائهم بوجه من الوجوه. ويدخل في ذلك: خطف الطائرات، فليس بين الخاطف وركاب الطائرة ـ عادة ـ قضية، ولا خلاف بينه وبينهم، إنما يتخذهم وسيلة للضغط على حكومة معينة لتحقيق مطالب له، كإطلاق مساجين أو دفع فدية، أو نحو ذلك، وإلا قتلوا من قتلوا من ركاب الطائرة. كما يدخل في ذلك احتجاز رهائن لديه، لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولكن يتخذهم وسيلة ضغط لتحقيق مطالبه أو يقتل منهم من يقتل، كما فعلت جماعة أبو سياف في جنوب الفلبين وغيرهم. ومن ذلك: قتل السياح في مصر، كما حدث في مذبحة الأقصر وغيرها، لضرب الاقتصاد المصري، للضغط على الحكومة المصرية. ومن ذلك: ما حدث في 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، من اختطاف الطائرات المدنية بركابها من المدنيين الذين ليس بينهم وبين خاطفها مشكلة أو نزاع، واستخدامها (آلة هجوم) وتفجيرها بمن فيها، للضغط والتأثير على السياسة الأمريكية. وكذلك ضرب المدنيين البرآء في برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وفيهم أناس لا علاقة لهم باتخاذ القرار السياسي، ومنهم مسلمون وغيرهم. وإذا كنا ندين العنف بصفة عامة، فنحن ندين الإرهاب بصفة خاصة، لما فيه من اعتداء على أناس ليس لهم أدنى ذنب يؤاخذون به. وقد أصدرت فتوى ـ منذ بضعة عشر عاماً ـ بتحريم خطف الطائرات، وذلك بعد حادثة خطف الطائرة الكويتية، وبقاء ركابها فيها محبوسين ستة عشر يوماً، كما قتلوا واحدا أو اثنين من ركابها. كما أفتيت بتحريم حجز الرهائن والتهديد بقتلهم، إنكاراً على ما اقترفته جماعة (أبو سياف). وكذلك أصدرت بياناً ـ عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ دنت فيه هذا العمل ومقترفيه، أياً كان دينهم، أو جنسهم أو وطنهم. وأيضاً دنت الإرهاب بوضوح ـ في خطبي، ومحاضراتي، ومقالاتي وكتبي ـ ومن ذلك: ما ذكرته في كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر القمة الإسلامية المسيحية، الذي عقد في روما في أكتوبر 2001م، وفيها قلت: نرفض الإرهاب: (إنني باسمي وباسم كل علماء المسلمين نرفض الإرهاب، الذي يعني ترويع الآمنين وقتل البرآء بغير حق، ولكنا لا نعد أبداً من الإرهاب من يدافع عن وطنه وحرماته ومقدساته، فمن الظلم أن يُسمى هذا إرهاباً، بل هو دفاع مشروع. إن الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية، والأعراف الدولية، والقيم الفطرية، كلها متفقة على مشروعية المقاومة لكل غازٍ يحتل الأرض، حتى يجلو عن الوطن. كما أننا ننكر أن نحارب الإرهاب بإرهاب مثله، يستخدم نفس منطقه، ويأخذ البريء بذنب المسيء، والمظلوم بجريرة الظالم، ولهذا نحذر هنا أن يؤخذ شعب كامل بجريمة أفراد منه، حتى لو ثبتت الجريمة عليهم، أو يتهم دين تتبعه أمة كبرى بأنه دين العنف والإرهاب بسبب أفراد منه، وقد سبق لأفراد مسيحيين في أمريكا نفسها اتهموا بجرائم إرهابية، وحوكموا عليها ودينوا فيها، كما في حادث أوكلو هوما سيتي الشهير، الذي قام به مسيحي أمريكي بدوافع خاصة، فلم تتهم ـ بسببه ـ أمريكا كلها، ولا العالم المسيحي، ولا الديانة المسيحية؟ يجب أن نتعامل مع الإرهابيين على أساس من معرفة دوافعهم، ودراسة نفسياتهم، فالإرهابي إنسان مغلق على نفسه، شديد التعصب لفكرته التي يؤمن بها، ويرى من خلالها العالم والحياة والإنسان، على غير ما يراه الآخرون، ويرى نفسه هو المصيب، وكل الآخرين مخطئين، أو منحرفين. فهو صاحب قضية يعمل من أجلها، وليس من أجل مصلحة نفسه، وهو مستعد أن يضحي بنفسه من أجل قضيته. وآفته ليست في ضميره، بل في رأسه وفكره. ولهذا يجب أن يقاوم أول ما يقاوم بتصحيح فكرته الخاطئة، ومفاهيمه المغلوطة، ولا يقاوم عنفه بعنف مضاد، إلا بمقدار ما تمليه الضرورة، فإن هذا العنف لا يزيده إلا تصلباً وإصراراً على موقفه. وهذا عمل أهل الفكر والدعوة والتربية، والميدان مفتوح أمامهم لتقويم ما أعوج من فكر، وإصلاح ما فسد من السلوك. ثم إن جرائم الإرهاب ـ عادة ـ إنما هي جرائم أفراد، أو مجموعات صغيرة، ومثلها لا يقاوم بشن حرب كبيرة عليها، لأنها قد تصيب غيرهم ولا تصيبهم، وإنما يقاوم هؤلاء بما يقاوم به كل المجرمين، وهو تقديمهم لمحاكمة عادلة تعاقبهم بما يستحقون وفق الشرائع والقوانين المرضية. كما أن محاربة الإرهاب حقاً إنما تتم بمحاربة أسبابه، ومنها إزالة المظالم، وحل القضايا المعلقة، ومنها: قضية فلسطين التي شرد أهلها وأخرجوا من ديارهم بغير حق. ومن ذلك: أن يترك للمسلمين حريتهم، وحقهم في أن يحكموا أنفسهم وفق عقائدهم التي آمنوا بها، ولا يفرض عليهم نظام لا يرضونه. هل هذا العنف مفيد؟ بقي سؤال آخر ـ لابد منه هنا ـ وهو: إذا لم نتكلم بمنطق الشرع، وتحدثنا بمنطق المصلحة أو الفائدة والثمرة، فهل هذا العنف مفيد؟ هل يحقق مصلحة للدعوة الإسلامية، وللصحوة الإسلامية؟ لا فائدة من هذا العنف: نستطيع أن نؤكد أن هذا العنف لا يغير حكومة ولا يسقط نظاماً، هذا الاغتيال السياسي، أو القتل العشوائي، أو العمل التخريبي، لم نره غير شيئا في الأنظمة القائمة التي أراد دعاة العنف تغييرها، وقد جرب الاغتيال السياسي، فذهب حاكم وجاء آخر بعده، واستمر الوضع، وربما كان الجديد أسوأ من القديم، وربما ازداد الوضع سوءاً. ثم إن هذا الذي يقوم بالعنف لا يستطيع الاستمرار فيه إلى الأبد، إنه يستمر مدة ثم ييأس، ويلقي سلاحه، ولم يجن ثمرة من عمله، إلا ما قتل من أنفس، وما أضاع من جهد وعمر. فقه التغيير: على أن فقه التغيير الحق لا يتم بالعنف، إنه عملية طويلة المدى، عميقة الجذور، يبدأ أول ما يبدأ ـ وفق المنهج القرآني والنبوي ـ بتغيير ما بالأنفس، بالتوعية والتربية، والإعداد الطويل النفس. غير ما بنفسك يتغير التاريخ، هذه السنة القرآنية الثابتة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (سورة الرعد: 11) وهذا ـ للأسف لا يعيه إلا أولو الألباب، ولا يصبر عليه إلا أولو العزم، وقليل ما هم. العنف الوحيد المشروع: إن العنف الوحيد المشروع هو العنف لمقاومة الاحتلال الغاصب، مثل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والصربي في البوسنة والهرسك، وفي كوسوفا، والهندوسي في كشمير، ونحو ذلك. وهو ما يجب أن يقرره أهل الحل والعقد، ولا يترك الأمر فوضى لكل من يقدر على حمل السلاح. وهذا في حدود الاستطاعة، حتى لا تتعرض الجماعة المسلمة للإبادة والتصفية الجماعية، بحجة مقاومة العنف والإرهاب. وبهذا يمكن الكمون والتربص فترة، ثم الظهور عند الفرصة والقدرة. وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (سورة التغابن: 16) وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (سورة البقرة: 286) وفي الحديث المتفق عليه: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" رواه البخاري ج9 ص117 ومسلم (الحج) 412. وقال تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (سورة البقرة: 195) وقال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } (سورة النساء: 29) وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (رواه ابن ماجه رقم 2340، 2341). مقاومة الكفر البواح: وهناك عنف آخر مشروع: عبر عنه الحديث الصحيح المتفق عليه، حين قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان" وذلك مثل مقاومة الردة العلمانية الصريحة، التي قال عنها العلامة أبو الحسن الندوي: ردة ولا أبا بكر لها. والردة التي ترفض قواطع الإسلام. وهذه المقاومة المشروعة في حدود الاستطاعة والإمكان، وإلا وجب الصبر والإعداد ليوم الخلاص. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
عدد المشاهدات: 75553
تاريخ المقال: Monday, October 27, 2003
التعليقات على الإسلام دين الرفق والرحمة لا دين العنف والنقمة (1)

azees9Friday, September 21, 2007

احسب الناس ان يتركواان يقولواأمناوهم لايفتنون.فتلك وسيلةالغايةمنهاالحكمة.فليعلن الله الذين صدقواوليعلمن الكاذبين.وبماان الانسان هونفسه,على نفسه بصيرةولوالقى معاذيرة,وجمعه ناس كان النداءلجمعه.ياأيهاالناس قدجائكم من ربكم بصائرفمن ابصرفلنفسه ومن عمي فعليها.ولاامرسبحانه وتعالى بغايةإلاوامره الاول بالوسيله.والامثلةكثيرة.واعلمواان الله يعلم مافي انفسكم.الغايةمن امره الاول تحقيق امره الاخر.فحذروه.ويتجلى هذاالمعنى بقوله:عزوجل.وبالحق انزلناه وبالحق نول.اليؤال اين الوسيله من الغاية؟ومن شدةعداءقريش لمحمدلتجده واضح بين اليوم بين الناس.قل إنماأنابشرنثلكم يوحى إلى أنماإلهكم إلهاواحدافمن كان يرجولقاءربه فليعمل........ولايشرك بعبادةربه احدا.

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
3885

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري