ما مشروعية تعليم مناسك العمرة عن طريق عمل مجسم للكعبة والطواف حولها؟
الإجابة:
رفع الله تعالى شأن العلماء فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وطلب منهم تعليم عباده فقال جل شأنه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، كما طلب منا سبحانه وتعالى الحج والعمرة بقوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، فأمر بالأداء والإتمام، ومعلوم أنه لا عمل قبل العلم، قال الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه 1/ 37: "باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم". اهـ. وكان من سنة الله تعالى في تعليم نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم التنوع، من هذا ما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم حيث سُئِل: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة. وورد أن الغيب كان يُصَور أمامه كما في حديث أنس بن مالك: أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» أخرجه البخاري ومسلم، ومثله ورد في حادثة الإسراء حين سأل الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف بيت المقدس فقال: «لَمَّا كَذَّبَتنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَا اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» أخرجه البخاري ومسلم عن جابر. وهكذا أيضًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلم أصحابه بأساليب متنوعة، فقد صور لهم ما يشبه اللوحات التوضيحية كما في حديث ابن مسعود قال: «خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ -أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ- وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطُطُ الصِّغَارُ الْأعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا» أخرجه البخاري، وأخرج أيضًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا، فَقَالَ: «هَذَا الْأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ». وكان أحيانًا يمثل ما يحكيه بفعله كما في حديث الذين تكلموا في المهد، والذي يرويه أبو هريرة، وفيه: «. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ» أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم: «فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمصُّهَا». قال الحافظ ابن حجر تعليقًا على الحديث: "وفيه المبالغة في إيضاح الخبر بتمثيله بالفعل". اهـ. وقد يُشَبِّه الغائبَ بالشاهد لاستحضار الصورة، كما شبه عددًا من الأنبياء وجبريل والمسيح الدجال ببعض الصحابة وقال: «أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ»، يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، والروايات في صحيح مسلم 166 – 169 عن عدد من الصحابة، وبعضها أصله في البخاري. بل قد ورد تأديته بعض العبادات عمليًّا لقصد التعليم كما في حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلاتِي» أخرجه البخاري ومسلم. ثم سَرَت هذه الطريقة في سلفنا الصالح أيضًا؛ فعن أَبِي قِلابَةَ قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ -أحد الصحابة- فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ: "إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي" أخرجه البخاري، وترجم له: باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته. وورد عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ. قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ. يَحْكِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: آ آ آ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ» أخرجه البخاري. والمعاينة تكون أقوى أثرًا في النفس من السمع كما ورد في الحديث: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ، فَلَمْ يُلْقِ الأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ» أخرجه ابن حبان والحاكم والطبراني في الكبير والأوسط، واللفظ له عن ابن عباس. مما تقدم يُعلم أنه لا بأس بتعليم مناسك العمرة على النحو الوارد بالسؤال، بل إنه قد يرتقي إلى الاستحباب، وإذا لم يمكن فهم المنسك إلا به فقد يجب، وعلى أن يتم ذلك في جو من التعظيم لشعائر الله؛ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. نسأل الله لنا وللمسلمين حسن العلم والعمل بالدين. والله سبحانه وتعالى أعلم. فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد دار الإفتاء المصرية
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الموضوع الآن!