|
إذا كانت ليلة القدر هي الليلة التي أنزل فيها القرآن، وتنزلت فيها ملائكة الرحمن، من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر. فلنعلم أن في ليلة نزول القرآن دعوة مؤكدة إلى إحيائها بالقرآن، وفهم معانيه، وتطبيق دعوته إلى الحق والخير والسلام. ومما لاشك فيه أن للقرآن الكريم منهجه في بناء المجتمع الإسلامي الفاضل. وللقرآن الكريم دعته وهدايته إلى أقوم السبل وأعظمها، كما قال الله تعالى: [{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }] ودعوة القرآن الكريم إلى بناء المجتمع المثالي لا تقتصر على ما فرضه من حدود على الجرائم والشرور .. لتنقية المجتمع منها فحسب، ولا على النواهي والتحذيرات التي تحرم على المسلم ارتكاب الرذيلة أو فعل القبيح أو الإهمال فيما وجب عليه فقط، كما لا تقتصر على ما شرعه الله تعالى من عبادات ومعاملات وجهاد لا غير. ولا تقتصر كذلك على ما جاء من الفضائل أو الأخلاق في ذروتها كالإيثار، والإحسان إلى من أساء وغير ذلك .. بل أن دعوة الإسلام تضمنت مع كل هذا وذاك "الأسوة الحسنة" التي تمثلت في رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وبلغ فيها أسمى الدرجات، فلا يكفي للرائد والمعلم أن يلقي توجيهاته دون أن تكون أعماله وسلوكه مصوغة على أعلى المستويات فيما يأمر أو ينهى عنه. والمعلوم أن في الإنسان فطرة خيرة كريمة، ونزعة بشرية مقابلة، وكل واحدة من هاتين تحاول اجتذاب الإنسان إلى صفها، فمن زكى نفسه فقد أفلح. ومن أهملها فقد ضل ضلالا مبينا "ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". ولكي يكون السلوك دائم النقاء، موصول الخير، مأمونا عليه من الانزلاق في حل المعصية، والشرور جاءت توجيهات الإسلام لتخاطب الظاهر والباطن، ولتستحث في الإنسان فطرته الطيبة وتحرك أشعتها مضيئة صوب الحق والخير. ولا يجعل الإسلام الحساب على مجرد شكل العمل وصورته، بل على روحه ونية فاعله، <قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"> <وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما يبعث الناس على نياتهم"> وهنا يتجلى ما يتضمنه الدين من بعث لقوى الخير الكامنة. وإطفاء لنزعات الشر الطائشة في داخل النفس الإنسانية، أن قوانين الدنيا قد يفلت البعض منها بحيلة ما، فلا يقع تحت طائلة العقاب، أما بالنسبة للقوانين الإلهية فمهما أخفى العبد جريمته .. فلن تخفى على علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى. ولهذا كان الإسلام في دعوته يجمع كل صفات الظاهر والباطن ويغرس في النفس الإنسانية روح المراقبة ومعاني الخير الكاملة . وينقي القلب دائما ويجعله على صلة وثيقة بالله وبالناس. وسنرى كيف نادى الكتاب العزيز والسنة الشريفة إلى كل هذا، وكيف كانت تقوى الله تعالى هي أهم الركائز، وعلى ضوئها تنبثق كل الفضائل والأخلاق. فلقد أرسى الإسلام قاعدة المثالية بالنسبة للأفراد والجماعات، والأمم والشعوب، وعلى ضوئها يقوم بناء المجتمع المثالي، هذه القاعدة القرآنية هي جعل التقوى شعار، وطبقها سلوكا. فآتت ثمارها حقيقة. وقد وضح القرآن الكريم سمات هذا المجتمع الرفيع، وبين أنه هو الذي يجعل القرآن هداه "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون". ويرسم القرآن صورة هذا المجتمع المتكامل في مبادئه، بأنه صحيح العقيدة في دينه، متعاون في معاشرته، مهذب النفس في سائر معاملاته وعلاقاته. ا. أما صحة العقيدة: فتكون بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين. 2. وأما تعاونه في المعاشرة: فيكون بإيتاء المال ـ مع حبه له ـ لأصحاب الحقوق والمحتاجين. <فقد روي مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: "أما وأبيك لتنبأنه: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان"> 3. وأما تهذيب النفس في سائر المعاملات والعلاقات: فيكون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في كل الأحوال وفي أوقات الشدائد، وعند لقاء العدو. إن من يجمع هذه المبادئ فقد صار صادقا في دينه، واتباعه للحق وطلبه للبر، وهو بحق تقي .. والمجتمع الذي يتسم بها هو المجتمع المثالي الفاضل ويجمع محسنين "كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون". هذه المبادئ كلها تشير إلى قول الله تعالى: [{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }] وفي موطن آخر من سورة "الذاريات" يصور القرآن الكريم صورة المجتمع المثالي بأنه مجتمع تقي بلغ في رقيه وتقاه إلى درجة الإحسان: <التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"> وقبل أن يذكر ملامح هذا المجتمع يبين جزاء أصحابه، وما أعده الله تعالى من جنات وعيون. وما هم عليه من رضا تام، وقبول حسن لما آتاهم ربهم، فيقول الله تعالى: [{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ "15" آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ "16" كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ "17" وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ "18" وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ "19"}] أن درجة الإحسان التي أشارت إليها الآيات السابقة، لهي أمان للمجتمع، فوق ما لها من منزلة، وما لأصحابها من أجر وافر عند الله، هي أمان من الخوف والفزع والقلق النفسي، وهو أمان من الحزن الذي يصاب به غير المحسنين في أعمالهم وعباداتهم. قال تعالى: [{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}] وتفسر الآيات الشريفة درجة الإحسان في التقوى والعمل، بأنها ترقي بالمجتمع إلى الدرجات العلا .. ا. أنهم يهجعون في طائفة قليلة من الليل، ويقضون سائر الليل في العبادة. 2. ومع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم ينهضون في الأسحار ويستغفرون ربهم وكأنهم لم يقضوا الليل في العبادات .. فهم يصلون في الرقي بالعبادات من نوع إلى آخر ولا يركنون لما قدموا من طاعة أو سهر وتهجد بل مع هذه الاجتهادات يكثرون من الاستغفار وكأنهم مذنبون. 3. ثم يقدمون بعد هذا الدليل على صدق الإيمان، وإحسان الطاعة، وذلك بالبذل والإنفاق ولا يقصرون البذل والعطاء على السائل الذي يسأل، بل يبذلون وينفقون على من يسأل، كالمحرم وهو: المستجدي، والمتعفف الذي يظنه بعض الناس غنيا، لعدم سؤاله فيحرم الصدقة، ومصداق ذلك في موطن آخر، قول الله تعالى: [{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ "16" فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }] وإذا كان القرآن الكريم قد بين جزاء قيام الليل بهذه الصورة: [{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }] فقد أكدت السنة الشريفة عظمة هذا الجزاء: <عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: "فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين"> وأما جزاء الاستغفار وثمرته: فواضح في قوله الله تعالى: [{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا "10" يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا "11" وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا "12"}] <ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب"> وأما فضل الإنفاق وجزاؤه فقد قال تعالى: [{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }] وقال تعالى: [{وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}] <وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن ملكا بباب من أبواب السماء يقول: من يقرض الله يجز غدا، وملكا بباب آخر يقول: اللهم أعط منفقا خلفا وعجل لممسك تلفا"> هذه العناصر الثلاثة: قيام الليل، وعدم الاتكال على ذلك فيكثر من الاستغفار، ثم إقامة البرهان على الصدق في جميع الفضائل بالإنفاق، <كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ".. والصدقة برهان"> هذه كلها تشكل عناصر الإحسان الذي هو عنوان المجتمع المثالي الذي أخذ نفسه بتقوى الله تعالى والإحسان في عباداته ومعاملاته. والناس في نظرهم للمثالية يختلفون، وينقسمون إلى قسمين: أحدهما: يراها في حب الشهوات، وهؤلاء هم حزب الشيطان وعشاق الدنيا الذين غرتهم الأماني وغرهم بالله الغرور. والآخر: يراها في تقوى الله تعالى، وهؤلاء هم حزب الله "ألا أن حزب الله هم المفلحون". وقد بين القرآن الكريم أن القسم الثاني هو الذي على حق، وهو الذي أعد له ربه جزاء عمله على نوعين: الأول: جسماني نفسي، وهو الجنة والأزواج المطهرة. والثاني: روحاني عقلي، وهو رضوان الله سبحانه وتعالى. ويصور القرآن الكريم النوعين من المجتمع في قوله تعالى: [{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ "14" قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ "15"}] ثم تبرز لنا الآيات الكريمة سمات هذا المجتمع العظيم: [{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "16" الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ }] أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان، وابتهلوا إلى الله بصدق إيمانهم ليغفر لهم. كما أنهم صابرون. والصبر ضياء، وقد قال الله تعالى في جزاء الصابرين: [{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ }] وقال تعالى: [{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }] <وقال صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن أن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وأن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"> ثم يصفهم بعد ذلك بالصدق، والصدق يكون في القول والعمل. وقد قال الله تعالى في جزاء الصادقين: [{وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ "33" لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ "34" لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ "35"}] وقال تعالى: [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}] <وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمرة الصدق ونتيجته، وعاقبة الكذب ونهايته: "أن الصدق يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وأن الكذب يهدي إلى الفجور وأن الفجور يهدي إلى النار وأن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا"> وحين يصفهم بالعبادة يصفهم بالمداومة عليها، والحرص على روحها ولبابها لا على الشكل والمظهر فحسب، فيصفهم "بالقانتين". وأما الصفتان التاليتان وهما: الإنفاق، والاستغفار، فبعض المفسرين يرى أن المراد بالاستغفار هنا الصلاة وقت السحر. وقد أمر الله تعالى عباده بالأخذ بأسباب المغفرة والجنة، ووجههم إلى المسارعة في ذلك، ولكن الأمر والتوجيه جاء بصيغة تقتضي تحقق هذا الجزاء العظيم الذي أعد لهم، لأنهم اتقوا ربهم حق تقاته، وقدم الجزاء أولا، ليبين أنه المتكفل به، والضامن له، ثم ذكر بعد ذلك سماتهم وأوصافهم .. ثم من أحسن عملان وليوضح أيضا أنه مؤكد عند الله سبحانه وتعالى. وفي معرض تعداد أوصاف المتقين الذين سموا في أعمالهم إلى مراقي الفلاح، والذين كونوا بمثاليتهم الفذة أرقى مجتمع إنساني على ظهر الأرض وفي معرض تعداد الأوصاف، ذكر نوعين من الأعمال، عليهما تدور سعادة الأمة التي ينتمون إليها كالإنفاق، والسعادة النفسية للعامل ذاته .. هذان النوعان هما: ا. العمل البدني كالإنفاق. 2. والعمل النفسي كعدم الإضرار. هذه الملامح السابقة يصورها قول الله تعالى: [{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ "133" الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "134" وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "135" أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ "136"}] وهكذا تطلعنا هذه الآيات الكريمة على خمس سمات إذا تحققت تكاملت بها صورة المجتمع المثالي: أولا: [{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء }] أي في حالة الرخاء وفي حالة الشدة، والسراء من السرور، أي في الحالة السارة التي يستشعر فيها الإنسان السعة واليسر. و"الضراء": من الضرر أي في الحالة الضارة التي يستشعر فيها الإنسان الضيق والعسر. وقد روي عن ابن عباس تفسيرهما باليسر والعسر. وهنا لفتة إلهية حكيمة. حيث بدأ صفات المتقين بالإنفاق، وذلك لسببين: 1. لمقابلته بالربا الذي نهى عنه في الآية السابقة في قوله تعالى: [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .. }] فإذا كان في الربا استغلال من الغني للفقير، وانتهاز لحاجته وفاقته لأكل ماله بغير وجه حق .. فإن في الصدقة مساعدة للفقير وعونا له، لا يبتغي من الفقير جزاء ولا شكورا. 2. الإنفاق في جميع الحالات اليسر والعسر دلالة على صدق الإيمان، وبرهان على قوة اليقين .. وهذا هو شأن المتقين، لا يجرهم اليسر إلى البطر، ولا يوقهم العسر في القنوط، فهم لا يقتصرون في تعاونهم على حالة الرخاء والنعمة، بل هم في الحالين سواء، فلما كان الإنفاق أدل على التقوى، وأعظم نفعا للمجتمع الإنساني من سائر الأعمال الأخرى .. استهلت الآية الشريفة موكب المتقين بالإنفاق. ثانيا: "والكاظمين الغيظ" وهم الذين يحبسون غيظ نفوسهم بالصبر عندما يهضم لهم حق من الحقوق مادية كانت أو معنوية، وهذه الصفة تقتضي ضبط النفس وكبح جماحها، حتى لا تنزلق في الشر فتكون فتنة. <وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم درجة كظم الغيظ وثمرته في قوله "من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخبره في أي الحور شاء"> ثالثا: "والعافين عن الناس" وهنا يرقي الإسلام بنقل المسلم، فبعد أن أطفأ جذوة الشر التي تكاد تندلع بها النفس الإنسانية، وذلك بكظم الغيظ، انتقل بالمسلم إلى درجة أسمى، فيها معالجة للنفس وارتفاع إلى مرتبة أسمى من العفو فيسمح ما بقى من شر حتى يعود القلب نقيا. <وعن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك وتصل من قطعك"> رابعا: "والله يحب المحسنين". وإذا كان العفو منزلة فوق العدل كان عند بعض العلماء إحسانا وعلى هذا فمعنى "والله يحب المحسنين" أي الذين أحسنوا في معاملتهم وعفوهم. ولكنني أرى أن قوله تعالى: "والله يحب المحسنين" صفة رابعة، زائدة على ما سبق، وقد جاء في صيغة تبرزه بكونه محبوبا عند الله سبحانه، فهي درجة زائدة بلغ أصحابها في مثاليتهم مدى عظيما، بحيث لا يكتفون بكظم الغيظ والعفو فحسب، بل أنهم يحسنون إلى من أساء إليهم. روي أن بعض السلف الصالح غاظه غلام له غيظا شديدا فهم بالانتقام منه فقال الغلام: "والكاظمين الغيظ" فقال: كظمت غيظي. قال الغلام: "والعافين عن الناس" قال: عفوت عنك. قال: "والله يحب المحسنين" قال:اذهب فأنت حر لوجه الله. خامسا: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" وهذه الصفة، تكشف عن الطبيعة البشرية وأنها عرضة للخطأ والزلل، فالمسلم التقي إذا اقترف معصية في حالة ضعف نفسي يبادر بالرجوع إلى ربه مستغفرا تائبا. وأن سماحة الإسلام لا تدع أمثال هذا النمط في مؤخرة القافلة، بل ترفعهم إلى مصاف المتقين ماداموا قد ذكروا ربهم، واستغفروه، ولم يصروا على ما فعلوا. ومما سبق يمكننا أن نبرز هنا سمات هذا المجتمع المثالي لنكون بمثابة الأضواء الكاشفة للأمة الإسلامية حتى تترسم الخطى الصحيحة التي أشار إليها الإسلام في القرآن والسنة، وهذه السمات منها ما يتعلق بصحة العقيدة: وهذا عن طريق الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر .. وما يستلزمه من عبادات ومعاملات. ب. التعاون والتكافل الاجتماعي، هذا عن طريق التعاون والإنفاق في جميع الأحوال. تهذيب النفس الإنسانية. وترويضها. وكبح جماحها وفتح سبل الخير والحق لها. جـ. هذا عن طريق: الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج للمستطيع، الوفاء بالعهد، الصبر في جميع الأحوال. د. سموهم في العبادة والقرب من الله .. وهذا عن طريق: قيام الليل، الاستغفار في الأسحار.
عدد المشاهدات: 4713
تاريخ المقال: Wednesday, November 3, 2004
التعليقات على 5- ليلة القرآن . والمجتمع العظيم

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
20503

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

سجل في النشرة الاخبارية في نور الله